لم يكن يعبأ منذ اللحظة الأولى بما ستؤول إليه الأمور، لأنه قرر أن يكون هو من يضع نهايتها بيده، كان كل شيء مخططاً له كما ينبغي، منذ لحظة النزول من السيارة، وحتى لحظة الصعود إلى السماء، مقبلاً نحو الموت إقباله نحو الحياة، يسير بخطى واثقة، مترجلاً نحو الهدف، يضع يده على زناده دون أن يخطئ مرماه، تنتهي المهمة في عشر ثوانٍ، صنع فيها "الحدث الأمني"، ثم اختفى، تاركاً المساحة لعناوين الأخبار التي تعلن الفزع في المجتمع الإسرائيلي، بأن مخرباً جديداً، من الذئاب المنفردة التي لا تفنى، قتل جندية إسرائيلية، وأصاب آخرين.
يمشي الجنود بعدها مدججين بالسلاح، وعيونهم كعيون البوم، تبصر بوضوح في الظلام، وكعيون السمك مفتوحة وهي نائمة، ليس بطولةً وإنما خوف، وليس جسارةً وإنما جبن، تبحث عن إبرةٍ في كومة قش، لا تأمن أن تشكشكها مرةً أخرى، في مكانٍ آخر، لا تعلم أين، ولا متى.
"صناعة الرعب" هذه التي تتقنها الذئاب المنفردة، هي المقياس الأول لنجاح مثل تلك العمليات، حتى وإن لم يوقع الذئب قتلى في صفوف فرائسه، فإنه يكفيه عواء القتلى المحتملين من حوله، حتى وإن استُشهد في نهاية المطاف، أو وقع أسيراً، فإن العملية تصنف على الدوام ناجحة، لأن الهدف الأول هو "الفزع"، وما دام حدث ولو لثانيةٍ، فقد ربح في رهانه بحياته على أن يروّع آخرين، احتلوا أرضه وبيته وقريته قبل سبعين سنة، ويقول لهم لستم آمنين هنا، ابحثوا عن وطن في مكان آخر.
الشيء الثاني الذي حققه عديّ، كان في إظهار خور الآلة الإسرائيلية، والعدد، والعتاد، والتكنولوجيا، وكاميرات المراقبة بين كل مترين، والآلاف الذين في الخدمة دائماً، ربما لشارعٍ واحد أو حدثٍ أمني واحد، كل هؤلاء يبحثون عن فتى، فعل ما فعل، واختفى حتى صار محاقاً، لا يجدونه ولو بحثوا عنه حرفيّاً في قش الأراضي المحتلة. لم يكن عديّ في المخيم، ولا في بيت، ولا في حارة، ولا في خندق، بل كان في قلب تروس الآلة الأمنية الإسرائيلية، يعطلها، ويضع العقدة في المنشار، ويظهر عطبها، أمام العقل المقاوم، الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، وإلى أين يصوب الماسورة، ومتى يكبس الزناد، وأين يضع خزنته.
قالوا: المنفذ حليق الرأس ويرتدي ثياباً سوداء. دلوا على طريقة إخفائه أكثر بينما يحاولون فك لغزه، فحلق الشباب رؤوسهم، كأنه حج جماعيٌّ نحو النضال لا الطواف، وما يعني الشعر؟ قالوا يا ليت شَعري، على غرار الشعراء حين يقولون يا ليت شِعري، يفدونه به وأكثر، يخفون أخاهم بينهم، وربما لم يكونوا قابلوه ذات يوم أبداً، ربما لم يعرف أكثرهم اسمه ولا شكله، لكنه واحد منهم، وفجأة صار في يوم وليلة قائداً لهم، يخفونه اليوم، ويلحق بعضهم به غداً.
عديّ فعل فعلته واختفى، سقى الأمة ما يروي عطشها ثم تولى إلى الظلّ، والقوم منهارون، يخشون اللسعة القادمة، فحين يلدغك عقربٌ في الظلام ثم لا تجده، ستعيش طوال عمرك ولو لمئة سنة، لا تنام الليل، ولا تهنأ بالنهار، وستظل صورته تراودك في أحلامك إذا غفوت، وصوته يشبه كل صوت حولك إن أطرقت، ولا تعلم أهو في غطائك بعدما نفضته، أم في ركن من أركان الغرفة، حتى إذا ظننتَ بالأقدار خيراً، واحتسبته في عداد الموتى، أو مللت من البحث عنه في نفس الأماكن كل يوم، غفوتَ، فباغتك، بلسعةٍ تقول أنا هنا، ولستُ عقرباً، بل عديّ!
ومضى الفتى، يشق الليل بنور مسدسه، يصوّب ويطارِد من ظنوا أنفسهم يطاردونه، فوضع النقاط على الحروف، والأنامل على الزناد، وأخذ يشرح الدرس الأخير، ويكتب بالرصاص على سبورة الوطن السليب، والزخات تعلّم، وقالوا قديما: "العيار اللي ميصيبش.. يِدوش"، أي الطلقة التي لا تصيب، تصنع ضجيجاً، فما بالك لو فعلت الطلقة الاثنتين معاً؟ هذا ما فعله عديّ؛ أصاب، و"دوَش"، أما الإصابة فهي ما أوقعت قتيلة، وجرحت آخرين، وأما "الدوشة"، فهي ما لم تعرفه "إسرائيل" بعد، هذا الضجيج ليس معنيّاً به الرصاصات وأصوات الصراخ على وقعها، وإنما ما بعدها من هرَج.
الشيء الأهم الذي حققه عديّ، هو ما سيكون بعده، لأنه بحد ذاته كانت نتيجة دروس قبله، درسها له الأساتذة رعد حازم، وفادي وشحة، وباسل الأعرج، وغيرهم الكثيرون، فما بالك بمن يأتي بعد، وأستاذه هو عديّ التميمي، تخيل حجم النتائج القادمة، بحجم المنفذ الحالي.
يثبت الفتى أن الحسابات باتت مختلفة، حسابات هذا الجيل لا تنصاع لقيادة معينة، ولا تنتمي إلى حركة ما، ولو انتمت فإن لها حساباتها التي تبقى مختلفة، تعرف المقاومة لا السياسة، وتدرك الثأر لا التفاوض، وتعرف أرض فلسطين حق المعرفة، فلا تقبل الدنيّة في حق القضية.
وصية عديّ التميمي
هذا هو عديّ، ولو كتبنا عنه ألف كتابٍ فلن يكون مبالغة، لأن رجلاً ينفّذ غير مبالٍ كأنه روتين يومي، ويختفي من دون كشفه كأنه مولودٌ في مغارة، ويعود إلى النزال كأنه يختار مصيره بيديه، وينقضّ مجدداً كأنه الزلزال وتوابعه، ويطلق الرصاص من دون شعورٍ بجروحه كأن الرصاص يدغدغه، ويصرّ على الارتقاء كأنه يجبر قاتله على مكافأته، لأن رجلاً كهذا يستحق أن يدرّس، فلا يعود جنود الاحتلال إلى بيوتهم وهم خائفون خوف الأمس، وإنما وفي أجوافهم رعب جديد، وخوف من نوع جديد، ورغبة في المغادرة، لو ساءت الخدمة أكثر من ذلك.
وجاءت وصية عديّ مختصرة، لا أتخيله كتبها إلا على بصيص ضياء، لا يتبيّن حروفه، لكنه يعلم ما سيكتب قلبه، ولم يفكر في الإلهام في القول، وهو الملهم بصمته، أمسك القلم برجفةٍ هادئة في يديه، يتبنّى عمليته بنفسه، قولاً واحداً، ويعلم أنه سيستشهد عاجلاً أو آجلاً، ويردّ على أي صوت جبانٍ في العقل، فيقول أعلم أنني لم أحرر فلسطين بهذه العملية، ولكنه نفذها واضعاً هدفاً أمامه، أن ثمرتها "أن يحمل مئات الشباب البندقية من بعده"، فلم يخاطب البطل المجهول الذي سيأتي، وإنما قصدها وأكد عليها بدقة وبلاغة، وفصاحة، وبيانٍ، وحقيقة لا تحمل صورة من صور المجاز، حقيقة لا تحتمل وجهين؛ "مئات" من بعدي، فما بعد هذه ليس كما قبلها. كتب عديّ كلمته، أعلن بما فعل فصلاً جديداً من "شكل" النضال، ثم أنهى فصله بوضع نقطة أخيرة مجيدةً في آخره، ليبدأ الأشباح الجدد الفصل "المرعب" الذي بعده.
ونهايةً، لستُ أرثي عديّاً، ولا غيره ممن في مقامه، فليس للأحياء نعي، وليس للأموات مقالة، ولكنها حيلة "المتفرجين" حتى يصيروا ذات يومٍ.. في قلب الساحة.
وهذا المقال ليس لعديّ وحده، وإنما لمن قبله، والأهم أنه لمن سيكون بعده، ويا هنائي لو عساه يقرأ هذا الآن، فيعلم كيف نرى الصقور، وكيف يهدم الأبطال مزاعم الأراذل، وكيف لا يفيد العرينُ ساكنيه من محتليه الضباع، فالأسد يعرف بيته جيداً، ولو راوغ، وسدّد، وقارب، وعاد، وانقضّ، وصوّبَ، ووقع، وقام، وسقط، وارتقى.. فهذا معناه الوحيد، أنه سيعود، ورسالته الجليّة "الويل لمن اعتقد أننا انتهينا".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.