“أوروبا حديقة وبقية العالم أدغال”.. هل نحن بحاجة لكتابة التاريخ البشري من جديد؟

تم النشر: 2022/10/20 الساعة 13:19 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/10/20 الساعة 13:19 بتوقيت غرينتش
مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل - رويترز

"أوروبا حديقة، وبقية العالم أدغال". كلمات "نارية" أطلقها جوزيب بوريل الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، وأججت غضباً عالمياً، وهو ما دفع بالرجل إلى الاعتذار، وإيضاح أن جملته اقتُطعت من سياقها. 

لكن على الرغم من الاعتذار، وأياً ما كان مقصد بوريل، مازالت جملته قوية التأثير، حيث إنها أعادت إلى الواجهة الإعلامية التاريخ الطويل لأوروبا الاستعمارية، ذاك التاريخ الذي حمل الكثير من العنف والاستعلاء والدم بالاستناد إلى أيديولوجية تفوق العرق الأبيض.

 ناهيك عن أنها قد صدرت في ظروف دقيقة تتصدرها الحرب الروسية الأوكرانية التي قادها بوتين، متهماً أوروبا بأنها مازالت تعيش بعقلية الاستعمار.

لقد أكد بوريل في اعتذاره أن لديه خبرة كافية ليعرف أن أوروبا والغرب لا يتحليان بـ"المثالية"، وأن بعض الدول الغربية انتهكت الشرعية الدولية أحياناً.

وأعتقد أن هناك أوروبيين أيضاً يدركون هذه الحقيقة التاريخية، لكن تظل الخطابات الرسمية والمواد الثقافية والإعلامية الغربية الموجهة محلياً ودولياً تحمل الكثير من الاستعلاء الغربي وادعاء المثالية الغربية، ومن الدلائل على ذلك محاولات فرض الأفكار الغربية على دول العالم أجمع، باعتبارها قواعد ذات سمة عالمية، دون احترام للخصوصيات الفكرية والثقافية للمجتمعات غير الغربية، بل دون احترام لكافة أبعاد وتفاصيل الحقائق العلمية، ومن أشهر هذه الأفكار طبيعية المثلية الجنسية.

وهنا لابد من أن نفرق بين الأخلاقيات والقيم البشرية التي تتمتع بسمة العمومية، وتلك القديمة أو المستحدثة التي تتمتع بسمة الخصوصية، فتطبيق العدالة والتحلي بالكرم وعدم التدخل في الشؤون الشخصية للآخرين على سبيل المثال تعد ضمن الأخلاقيات العامة التي يتفق حولها الأغلبية الساحقة من البشر حول العالم.

أما إقامة علاقة زوجية بين شخصين من الجنس نفسه فهي سلوك غربي مستحدث، كان يتم ممارسته دون سمة الزواج في الماضي، وهو سلوك يختلف حوله الكثيرون حول العالم، ليس لأنه ضد الممارسات الطبيعية المُؤدية إلى التكاثر فقط، ولا لأنه ضد الأديان الإبراهيمية فقط، بل لأنه مختلف عليه من الجانب العلمي أيضاً فيما يتعلق بالصحة النفسية والعقلية.

ولا شك في أن هناك حاجة إلى إعادة كتابة التاريخ البشري وعرضه، بأسلوب متوازن، بعيد عن التهويل والتهوين، بحيث لا يلصق صفتي البطولة و"المثالية" بـ"العرق الأبيض" في كل الأحوال والوقائع، ولا يلصق صفة الإجرام والتدني بكل المنافسين للشخصيات البيضاء على طول الخط، وكذلك فيما يتعلق بكل الأعراق، وهو ما يحتاج إلى جهود بحثية وإعلامية نزيهة تدرك أهمية تسليط الضوء على الحقائق التاريخية بعمق دون مبالغات.

لقد نهب الاستعمار الأوروبي خيرات الدول التي وصل لها، كما تسبب في ظهور الأيديولوجيات المتطرفة قومياً، والجماعات المتطرفة دينياً، باعتبارها ردود أفعال معاكسة للاستعمار، بل هناك إشارات تدل على وجود دور فاعل من دول استعمارية في صناعة وتمويل جماعات إسلامية متطرفة لضرب الأنظمة السياسية في الدول التي تسعى للسيطرة عليها.

أتذكر من الصفحات السوداء التي اطلعت عليها عن الاستعمار الأوروبي، تلك الصفحات التي ارتبطت بالاستعمار البلجيكي لدولة الكونغو الديمقراطية، ذلك الاستعمار الذي كان يعامل الكونغوليين كأنهم حيوانات، بل أقل، فقد نهب ثروات بلادهم، واستعبدهم، وعذبهم، وقطع أعضاء أجسادهم بلا رحمة، لقد عبَّر الملك فيليب ملك بلجيكا الحالي عن أسفه لما حدث في الفترة الاستعمارية تجاه الكونغوليين من عنف وقسوة، لكن ما هي فائدة الأسف بعد وقوع الأفعال المشينة!! 

العاهل البلجيكي الملك فيليب/ رويترز
العاهل البلجيكي الملك فيليب/ رويترز

ومن المؤسف أن قطاعات من سكان الدول غير الغربية لا يرون في الاستعمار الأوروبي لدولهم أي استعلاء يذكر، بل إن بعضهم يميل إلى تأييد الاستعمار الأوروبي على اعتبار أن ما يعانيه في بلده يمكن أن يحله الاستعمار، وهذا استنتاج خطأ ناتج عن نظرة سطحية لا تدرك حقائق الأمور. فأي استعمار أجنبي هو في حقيقته احتلال لا يبحث عن خير السكان الأصليين، بل يمتص خير بلادهم ويهمشهم، وإذا شعر بتهديدهم لمصالحه ربما يقتلهم.

وفي تقديري فإن الغرب مازال عاجزاً عن الخروج من "شرنقة" تفوق العرق الأبيض، الأمر الذي يمكن رؤيته بوضوح في محاولات تمديد واستمرارية السيطرة الغربية على العالم أجمع فكرياً وسياسياً واقتصادياً، وهذا إن كان يضمن للغرب فوائد اقتصادية وسياسية على المدى القصير؛ فهو من جهة أخرى يفتح الباب أمام اكتساب عداوات الأجناس غير الغربية بمرور الوقت، ما يهدد الغرب بالانهيار، إما على المدى المتوسط أو على المدى الطويل، وأفضل الطرق للخروج من هذه الشرنقة هو الطريق الاختياري.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

كيرلس عبد الملاك
كاتب صحفي
كاتب صحفي بعدة مواقع إخبارية وباحث في العلوم السياسية
تحميل المزيد