"تكلم حتى أعرفك"، أو كما يقولون "المرء مخبوء تحت لسانه"، إن أتيت من أي مكان على الخريطة المصرية وتكلمت، فستجد الناس قد حددوا بعد جملتين على الأكثر من أي المحافظات أنت، وهنا يكثر التندر على اللهجات المختلفة عن لهجة المركز/العاصمة، للغة قدرات مذهلة في التعبير عن الناطق بها وحالته النفسية والاجتماعية، بل عن ظروف عيشه وطبيعة المكان الذي أتى منه، هذا إذا كان التعبير باللغة تلقائياً وفق ما تعلم المرء وعاش وفكر، ماذا إذا لو استغل الإنسان تلك القدرات اللغوية قاصداً وواعياً كي يشكّل صورته عند الآخرين، لا كما هي على حقيقتها، بل وفق ما يرغب هو!
حين يقول كينيث براناغ: "أرغب في رؤية الأخوين كوين يمثلان شكسبير، بهذه الطريقة، يمكنني حينها سماعه بالطريقة التي كان من المفترض أن يبدو عليها"، نستشف أنه وللدهشة فإن اللكنة الأمريكية أقرب إلى الإنجليزية القديمة من اللكنة البريطانية، فوفقاً لبعض المصادر، فالاختلاف في نطق حروف العلة بدأ منذ أوائل القرن السادس عشر مع الطبقات الأرستقراطية التي سعت لتمييز نفسها عن باقي الطبقات عبر اللغة، فيما لم تتعرض الإنجليزية في المستعمرات الأمريكية لهذا، ومن هذا نستشف أن اللغة، وخاصة اللهجات المتفرعة عنها، استُخدمت منذ وقت طويل للتمييز الطبقي وبناء المكانة الاجتماعية، تميل الطبقات العليا من المجتمع إلى جعل لهجتها مرهفة وناعمة لتتناسب مع المخيلة الاجتماعية عن الطبقة وامتيازات العيش التي تحظى بها.
فكما يرى بيار بورديو، فإن اللغة ليست وسيلة تواصل فحسب، بل هي وسيلة للسلطة، فالكلمات تمارس نوعاً من السلطة فقط على من لها صلة به، واللغة ضمن هذا المفهوم هي خلاصة المقدرة والسوق اللغوية، ما يصل إلى حد صياغة مفهوم جديد تحت مسمى رأس المال اللغوي، فكل موقف لغوي يعمل بوصفه سوقاً تجري فيها مبادلة أشياء ما، تلك الأشياء هنا هي الكلمات التي لم تُصنع كي يُفهم معناها فحسب، بل أيضاً تكشف عن علاقة اقتصادية واجتماعية، حيث يجري تقدير قيمة المتكلم: هل تكلم بطريقة لبقة أم سيئة؟ هل هو متألق أم لا؟ إلى أي طبقة اجتماعية ينتمي؟ هل تنم طريقة كلامه عن أنه شخص ودود ومرح أم لا؟ (اللغة والمجتمع.. المسألة اللغوية في البنيوية التكوينية- بيار بورديو نموذجاً، د. الزواوي بغورة – مجلة المواقف)
إن اللغة في كل تفصيلة من تفاصيل بنيتها تنم عن تميزنا الفردي، فلكل إنسان منا صوته الطبيعي الخاص، والذي نسميه في العامية المصرية "الحس"، ونحن نستطيع تمييز المتكلم من صوته دون أن نراه، كما يمتاز أغلب الأشخاص بوجود لازمة لغوية تميز كلامهم، وعادة تكون تلك اللازمة طريقة مختلفة في نطق بعض الكلمات أو جملة يكثر من ترديدها، أو كلمة يبدأ بها الكلام، ثم إن لغة الفرد تتطور دائماً حسب خبراته واتصاله بالناس، وبذلك تستطيع اللغة أن تعبر، لا عما نريده فقط، بل عن مجمل شخصيتنا وتجاربنا الذاتية.
من هنا حملت اللغة إمكانات لمن يريد أن يصنع صورة ذهنية معينة عند الناس أو يفرض تصوراً بعينه، تستخدم الدول والمؤسسات والكيانات دائماً اللغة لتمرير رسائل ضمنية تتجاوز معناها المباشر إلى فرض واقع اجتماعي وتثبيته.
تخبرنا بعض القصص في الأدب الفرنسي عن كيف قام بعض الأشخاص الذين كانوا يرغبون في اختراق المجتمع البرجوازي الأعلى بالتمرن طويلاً على لغة ذلك المجتمع ولهجته، لأنهم يدركون أن خطأ واحداً أو زلة لسان قد تكشف زيفهم وتعري حقيقتهم وتجعل الشكوك تحوم حولهم، وقد جسد برنارد شو تلك العملية ببراعة في مسرحيته "بجماليون" إذ يقوم الأستاذ هيجنز عالم الصوتيات بتعليم بائعة الورد الفقيرة "إليزا دوليتل" لغة السيدات الأرستقراطيات في لندن، وقد أفصح برنارد شو عن مقصده من تأليف المسرحية بأنه أراد أن يشجع الأشخاص الذين تحجزهم معضلة اللغة عن المراكز الرفيعة التي يصبون إليها، وإننا لنشاهد في عصرنا نوع من تلك السدود التي تخلقها اللهجة الاجتماعية أمام الطامحين، لدرجة تجعل حظوظ من يمتلك تلك اللهجة فحسب متفوقة على حظوظ من امتلك الكفاءة والمهارة، لكنه لم يتقن لهجة ذلك الفضاء الاجتماعي الطبقي.
نلاحظ أيضاً في المراحل الزمنية التي تحدث فيها إزاحات حادة في الطبقات الاجتماعية فتعلو طبقات وتنخفض أخرى، ظهور لغة جديدة يتبناها الأثرياء الجدد والصاعدون في الفضاء الاجتماعي، فهؤلاء يحاولون الحفاظ على مكتسباتهم الاجتماعية والطبقة التي تميزهم من خلال تمييز أنفسهم في كل شيء، ولأن هذه العملية تتم بسرعة، فإنهم يخلقون لأنفسهم لغة مشوهة خليطة بين اللهجات، تستطيع أن تستشف فيها آثار الفقر والتدني الاجتماعي بجوار الرغبة في التميز وتقليد الأنموذج الطبقي الواعد.
إن اللغة المصنوعة خصيصاً لتصنع المكانة الاجتماعية وتبرر وجود الطبقة ليست بنية اجتماعية مبنية على حقائق وتفاعلات واقع، بقدر ما هي مجموعة من الخدع اللغوية كونت قشرة زائفة، ولذلك فهي تنم في الأساس على معضلات تواجه الجماعات الناطقة بها، فهي مجتمعات ينعدم فيها الانسجام والنسيج الاجتماعي المحكم، ولا يربط بينها سوى التشابهات التي يخلقها التساوي في رأس المال المادي.
وإن كانت للطبقة ذات يوم وظائف اجتماعية تقوم على توزيع الأدوار وصناعة ممرات التواصل الاجتماعي ضمن تراتبية معينة، فإنها مع تلك الرغبة المحمومة في التميز دون استناد إلى واقع تغلق الطريق أمام التواصل الاجتماعي، بل تحرم تلك الطبقة من دورها الاجتماعي كطبقة عليا كانت ستكون الأنسب للنهضة بالمجتمع وقيادته.
معضلة أخرى تواجهها تلك اللغة الاجتماعية، هي أنها بيئة مقفرة وفقيرة على أن تنتج إبداعاً أصيلاً يعبر عن هواجس الإنسان المنتمي إليها أو يقدم رؤية للوجود أو يساهم في التواصل الإنساني، لأنها تروم التأثير في ذهنية الآخرين بما يخلق مكانة متوهمة وسدود تقطع الطريق على أي تفاعل اجتماعي حقيقي، لذا فإننا نلاحظ أن الإبداع في الأزمنة المتأخرة وجد ملاذاً في لغة الطبقات الدنيا بعيداً عن لغة الطبقات الكلاسيكية والصاعدة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.