زرت البوسنة في شهر أيلول/سبتمبر 2022، وقد كانت رحلة مختلفة مليئة بالفوائد والخواطر، وقررت أن أشارككم إياها:
1- ارتبطت البوسنة، تلك الأرض الجميلة، بأذهاننا بالحرب والإبادة الجماعية، وبالوقائع الرهيبة المحزنة والترمل وفقد الأزواج والأبناء، فهذا أول ما عرفناه وسمعناه عنها في التسعينيات، ولذلك لم يخطر في بالي زيارتها على الإطلاق، خاصة أن أرض الله واسعة، وفي أوروبا بالذات خيارات متعددة، وأماكن متفردة للسياحة.
وإنه حين تتغلغل بعض الانطباعات في عقولنا، فإنها تجعل الموضوع المرتبط بها محسوماً، ولذلك لم يُغرني ولم يغير رأيي ما سمعته عن سحرها الخلاب وطبيعتها الفاتنة، وعودة السياح للسفر إليها.
ولكن إذا أراد الله أمراً، وضع له المسببات وجعل لنا حاجة فيه، وهذا ما كان، حيث انتقلت أختي للسكن هناك، واستقر بها المقام، فاضطرني الشوق إليها لإعادة الحسابات، وقررت زيارة ذلك البلد الجميل لأراها بعد طول فراق!
وهكذا آمنت وأيقنت أكثر وأكثر، كيف نعيش نحن تحت مشيئة الله، ومهما خططنا، فإن أمورنا تمشي بقضاء الله وقدره.
2- عرفت أن التصلب على الرأي غير محمود، فالدنيا والظروف في تغير مستمر، وقد يكون فيما صرفنا النظر عنه "خير"؛ فقوموا كل مدة بدراسة قناعاتكم القديمة وأولوياتكم، فلعلها خطأ وتحتاج إلى إعادة نظر وهندرة.
3- سبحان الله كيف تتبدل الدنيا ويتغير الحال، فبعد أن كانت البوسنة بؤرة مخيفة وتحت الحصار، انعكست الظروف وأصبحت آمنة، واضطربت أوطاننا التي كانت مستقرة. ولا يدوم على حال إلا مغير الأحوال.
فتغير الحال دفع كثيرين للهجرة إلى البوسنة وغيرها، بعد أن صارت آمن لهم من ديارهم، وأكثر تفهماً لظروفهم الصعبة من البلدان العربية والمسلمة (فيمكن الحصول على جنسيتها، أو العيش في أراضيها وإن كان بشروط صعبة).
4- على أن زيارتي لأختي والسفر لسراييفو لم تكن سهلة، فالبوسنة تحتاج لفيزا، وليس لها طيران مباشر من كل المدن، والدولة التي أقيم بها حالياً اضطرتني لركوب الطائرات على ٣ مراحل، والانتظار طويلاً مع ركاب الترانزيت، واستخدام 4 مطارات حتى تمكنتُ من الوصول إليها.
فتذكروا دائماً أن وجودكم مع أحبتكم وأقربائكم وأولادكم بمكان واحد، لن يستمر، فقد كنا نعيشُ أنا وأختي في البيت نفسه، وكانت أجمل الأيام، ثم تزوجنا وبقينا بالمدينة نفسها 40 سنة، فصرتُ أحتاج ثلث ساعة (البعد بين بيتي وبيتها) لأنعم بصحبتها المميزة.
ولكني اليوم -وبعد كورونا وبعد أن تفرق السوريون- احتجتُ لـ٢٤ ساعة حتى أصل إليها، فاستمتعوا إذا كنتم بقرب أمهاتكم وآبائكم ومن تحبون، ولا تقولوا نزورهم غداً أو بعد أسبوع؛ فالأيام تمر سريعاً، والفراق من سنن الحياة، ونعمة اللقاء والاجتماع لن تدوم، والله المستعان.
وانتبهوا لأن من حولنا مختلفون بمقدار ما يحملونه من الود والمرحمة تجاهنا. وإني أشجعكم بالذات على الجلوس مع الشخصية اللطيفة والحنونة والصادقة؛ لأنها من سعادة الآخرة والدنيا؛ فهي صلة رحم من جهة، وزاد نفسي يرفع المعنويات من جهة أخرى.
وتزداد الطمأنينة والفائدة بالنسبة لك حين تكونُ تلك الشخصية التي التقيتها قد عاصرتْ وشهدتْ طفولتك ونشأتك، فالذكريات الجميلة تُبهج، ومشاركة الجراح تدعم وتسلي وتنسي، ولقد جعلتني أختي أعود بزاد يكفيني لسنوات، لأعيش هانئة على ذكراه.
5- خلال زيارتي لأختي تجولنا في سراييفو وفي بعض مدن البوسنة والهرسك، فعرفت كيف يتداخل الموت مع الحياة والحزن مع الفرح، والألم من السعادة، والذكريات السلبية مع الجمال:
فهذا الجمال الطبيعي الخلاب الذي كنت أراه أينما مشيت، سواء بالشارع أو من شباك البيت، أو من رأس الجبل، كان مخلوطاً بذكرى الحرب والأحزان، فكنت إذا نظرت إلى جهة ورأيت الشلال الهادر الرائع والخضرة الممتدة المنعشة، التفت للجهة الأخرى فأرى في الناحية المقابلة مقبرة للشهداء، فالمقابر هناك كثيرة، وتمتد على مساحات جيدة.
وكانت آثار الرصاص باقية في حفر هنا وهناك على جدران البيوت ولطالما تساءلت: كم من شخص آذت وأعاقت وقتلت تلك الشظايا! فضلاً عن القذائف، فكنت أشعر أحياناً بتأنيب الضمير، إذ كيف أسيح في البلد وأتمتع وحولي المكلومون والمصابون؟! وبالفعل تمتلئ عيوني بالدموع، ثم أقول هكذا هي الحياة، وألجأ إلى الدعاء؛ للأحياء بالصبر، وللموتى بالمغفرة.
في البوسنة شعرت بواقع الحياة بلا تزييف ولا تجميل، فقد كان الناس هناك يعيشون حياتهم، فيخرجون للعمل والمدارس، وتكتظ المتاجر بالمتسوقين، والمطاعم بالمتنزهين، ولكن موتاهم دائماً على مقربة منهم، وكأنهم ما زالوا يشاركونهم ما يفعلونه، أو يطلعون على يومياتهم.
وحدثتني أختي عن شدة وفائهم، فقالت، الحزن باقٍ في قلوبهم، ولم ينسوا شهداءهم، فيذكرونهم كل يوم ويدعون لهم، وفي المناسبات يحملون الزهور والشموع، ويذهبون جماعياً إلى المقابر فيبكون ما شاء لهم البكاء، وقالت إنها ما زالت ترى بعض المصابين من جراء تلك الحرب، يمشون بالشوارع مستعينين بعكاز، فالحرب تبقى آثارها لعقود.
6- في البوسنة شعرت بمعنى السير في الأرض، والتفكر بخلق الله، فلا أراني إلا أسبح أو أحمد أو أكبر حين أرى خلق الله، وما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا! فأنا كما يبدو للناظر: أتنزه وأقصر الصلاة، وأتمتع بصحبة أختي وأسيح، ولكني شعرت هناك بمشاعر إيمانية عميقة وقوية وأنا أصل رحمي، وأتفكر بالظروف التي ساقتني للبوسنة، وأتأمل جمال الطبيعة وخلق الله.
وفي البوسنة الكثير من المساجد، فهنا المسجد الأردني وهناك السعودي، نسبة لمن بناه، وإن رؤية الجوامع وسماع الأذان والصلاة فيها لشرف عظيم، وكانت المساجد هناك تذكرني بدمشق بطريقة التأثيث والترتيب والمنبر، والمصاحف، وكم هاجني الشوق والحنين.
كما أن سبل الماء في كل مكان (مثلما كانت في دمشق)، وهي مجاناً لكل مار بالطريق. وكان هناك الترامواي الذي ما زال يعمل وينقل الركاب.
7- والبوسنة ليست لشراء السلع والبضائع، فأسواقها صغيرة وقليلة، وبضائعها محدودة جداً، وليست بلداً للأكل، فليس لها طعام مميز، سوى الكباب البوسني، والخروف المشوي. وأكثر ما يحبون شربه وتقديمه ما يسمونه "بُوسْنِيَنْ كوفي" وهي قهوة مماثلة للقهوة التركية، والبن الذي يختارونه هو الفاتح، ويقدمونها في صينية مع دلّة وفناجين بلا يد ولا صحن (ولها كلها اللون والتصميم نفسه)، ورؤية الصينية وحدها تشرح الصدر وتفتح النفس.
وإن أكثر ما يميز البوسنة: الطبيعة والأنهار والشلالات؛ فهي للسياحة بامتياز؛ فقد حباها الله بأكثر من 200 نهر، وبالأشجار والحشائش الخضراء التي تملأ السهول والجبال، وتبرز من بينها البيوت المصممة بطريقة لطيفة، والتي يعلوها القرميد الأحمر فيزيد بهاءها، فتصبح لوحة بديعة تجذب العين وتمتع النظر، فكنت إذا خرجنا بالسيارة أغلق موبايلي وأتفرغ للمراقبة من الشباك، والاستمتاع بكل التفاصيل.
وبلداتها تكاد تكون متقاربة ومتصلة، وأجمل مدنها بالنسبة لي كانت "يايتسي"، والتي سحرتني بطواحينها المائية، وتتبعها موستار، والتي كدت أرغب عن زيارتها، وقلت لنفسي وماذا سأجد فيها؛ وقد سافرت لأقصى الشرق ولأمريكا وأوربا؟! ثم يسر الله السفر لموستار، فوجدت الصور قد ظلمتها، وهي بجسرها والمقاهي المتسلقة عليه والنهر الذي يجري تحتها تحفة حقيقة، ولا يمكن وصف جمالها.
البوسنة جميلة، وأهلها زادوها جمالاً باهتمامهم بأناقة بيوتهم وتزيين شرفاتهم بالأزهار الملونة وتنسيقها بشكل ساحر، بل إن ديكورات المطاعم والقهاوي مميزة جداً وفيها إبداع، حتى لكنت أدخلها لا رغبة بشرب القهوة، وإنما لأجلس بهدوء ولآخذ وقتي بتأملها عن كثب!
ويعتني أهل البوسنة بأناقة ملابسهم وهندامهم أيضاً، فحتى لو كانت السيدة تتريض فإنها تختار حذاءها المريح بعناية، وتكون ملابسها مرتبة وتتناسب مع قوامها، ومتناسقة الألوان، ومناسبة للوقت (بعكس بلادنا التي تلبس فيها الصبية ثياب ومكياج السهرة الساعة الثامنة صباحاً وهي ذاهبة للجامعة!).
8- وأكثر ما أعجبني في البوسنة حرص أهلها على استثمار كل شيء، وما نعتبره نحن من الأدوات القديمة والآلات المتوقفة عن العمل غير صالح ولا مفيد، ويصنف عندنا كنفايات، رأيتهم يستفيدون منه بالديكورات، وهذا في منتهى الذكاء، فيزينون المقاهي والمطاعم بالدراجات الهوائية، وماكينات الخياطة والمسجلات والهواتف واللوحات والعلاقات والساعات، ويوفقون تارات فيصبح المكان ساحراً، وأحياناً قليلة يجانبهم الذوق فيبدو غير متجانس.
وإن هذا أكثر ما أعجبني في زمن صار الاتجاه فيه نحو التخلص من كل شيء، والتشجيع على الكب، ما دمر الكرة الأرضية، ولقد تربينا نحن بدمشق على حفظ النعمة، ولطالما وجهنا جدي علي الطنطاوي وجدتي وأبي للاعتناء بأغراضنا وعدم التفريط بها، فلا نكاد نرمي شيئاً شأننا شأن الجميع في ذلك الزمان.
وكنا لا نستغني عن أي شيء من متاعنا ما دام صالحاً للاستعمال، وطالما رمم أجدادنا أغراضهم القديمة وتابعوا استعمالها، ثم انتقلت إلينا ونقلناها إلى أولادنا، وبقيت بفضل حرصنا جيدة وتعمل، وأفضل وأمتن من الجديدة.
ودعوني أستغل الفرصة لأنبه لأمرين وأختم بهما المقال:
أولاً: يجب أن نتأكد قبل الشراء من حاجتنا الحقيقية للسلعة.
ثانياً: حين ننتهي منها أو نندم على شرائها فيجب أن نجد لها مصرفاً مناسباً: منحها لفقير أو إعادة تدوير أو بيعها على المواقع أو لصديق يحتاجها، والمهم: "لا للكب" و"لا للرمي" و"لا للاستهتار".
وحبذا لو تقتبسون منهم فكرة استغلالها بالديكور، فهي جد ذكية، لأنها تُجمّل البيت، وكثير مما نرميه لا يعاد تدويره، فيبقى عبئاً ويضرنا وأولادنا. واقرؤوا كتابي عن كيف نعيش سعداء ولا نحرم أنفسنا من الشراء، (وبالوقت نفسه لا يضحكون علينا بالإعلان والعرض الجميل، فنخسر أموالنا بشراء بضائع ما لها لازمة). فنحن أحق الناس بكسبنا. ونسأل الله الرزق الوفير والبركة فيه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.