جاء القرضاوي إلى فضائنا العام من روافد مدرسة ممتدة واجهت مبكراً سؤال الحداثة والإسلام، يراها الدكتور محمد عمارة على خلاف الغالب ممتدة من رفاعة الطهطاوي مروراً بجمال الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا بل وطه حسين، لتسلك مسارات عدة كان أهمها المسار الذي بدأه حسن البنا، ولو رأيناها مدرسة واحدة حاولت جاهدةً تطويع الواقع الجديد للشريعة أو إحضار الشريعة إليه سنجدها متدرجة الأطياف، بدءاً من غلبة الأفكار الجديدة على الرؤية الدينية وصولاً إلى هيمنة الرؤية الدينية ولو على حساب الواقع الذي تغير، وكانت المعضلة الأساسية في هذا الوضع هي أن الأفكار ظلت خارج المنظومة التي تتكون فيها الرؤية الدينية والشرعية، فإنتاج الأفكار عن الواقع والمجال العام والحياة المعاصرة والمجتمعات كان رهين معارف ومنهجيات بعيدة عن المنظومة الفقهية، بالطبع كانت هناك محاولات دائمة لإنتاج أفكار جديدة تناسب الواقع الجديد من داخل المعرفة الدينية، لكنها كانت تقع في فخ التلفيق تارة بأن تحاول تفصيل مفهوم شرعي مماثل لرؤية أنتجتها الحداثة، وتارة في فخ الرفض المطلق وعدم الاعتراف بالواقع، وتارة تنجح في تجاوز ذلك لكن في بعض المسائل الخاصة.
انطلاقة
من خلفية أصولية وتكوين علمي ساهم الأزهر فيه وفكر وقّاد جاء القرضاوي إلى ميدان تلك المدرسة عند النقطة الفاصلة التي وضعتها في مواجهة السؤال من جديد، في المحنة التي شملت القرضاوي مع الجميع كانت أزمة السؤال واضحة، ومن الأزمة يأتي النمو والنضج كما نستشف من إيريك إيريكسون في نظريته عن النمو النفسي، ومع الاستفادة من خبرات السابقين والنهل من معينهم، استطاع القرضاوي أن يبلور إجابته الخاصة عن السؤال، وبأصالة كاملة روح في مهمة صعبة يحول أصول الفقه إلى مصنع للأفكار الجديدة، فتح بابها وهو المتمكن منها لإدراك الواقع والتفاعل معه، وبدا الفقه معه كأنه يكتسب أراضي جديدة غير تلك التقليدية التي تخص وضعاً قديماً انتهى، في كتابه "الزكاة في الإسلام" يسحب القرضاوي الفقه وأصوله ومقاصده وقواعده إلى ميدان الواقع الجديد، يشتبك مع أزمات الفقر المعاصرة، ويبتكر أدوات فقهية مناسبة لتعقد العمليات الاجتماعية، وفي كتابه "كيف نتعامل مع السنة النبوية؟" يتناول الأمر بعد التأصيل من زاوية الخصائص والمنهج، ليبني نظرة جديدة نستطيع من خلالها الاستفادة من السنة النبوية المطهرة في عالمنا المعاصر، وكذلك فعل في كتابه الآخر "كيف نتعامل مع القرآن الكريم؟".
الفاعل في مدرسته
وداخل المدرسة ذاتها التي ينتمي إليها راح يتفاعل مع المطروح منها بالتأصيل تارة وبالنقد تارة أخرى، فأعمل فكره فيما طرحه سيد قطب ناقداً، وما طرحه الشيخ محمد الغزالي تأصيلاً، وتوسع لينهل من معين المدارس الأخرى، حتى بات طرحه معززاً برؤية أكثر اتساعاً واتساقاً.
القرضاوي مناظراً
وفي ذلك المضمار أفاد القرضاوي من إمكانات أصول الفقه في تحرير المسائل والمناظرة حولها، وتشهد المناظرة الشهيرة التي جمعته مع الشيخ الغزالي أمام الدكتور فؤاد زكريا على حسن استفادته من أصول الفقه في عرض حجته وبراهينه وتعقّب حجج الخصم، وفي كتبه التي كتبها للرد على الغلو العلماني وتفنيد أطروحاته نجد أنه ينطلق نحو صناعة الأفكار والردود من رؤية تكونت من فهم عميق لآليات عمل التشريع الإسلامي التي تضمن في ثناياها الحل.
كلمة وداع
ونحن نودع صاحب تلك المسيرة نستحضر هذا الجانب من سيرته؛ كي ننبه إلى ما يجب أن يستمر من القرضاوي، وما يجب على الأمة أن تستلمه منه، وهو ذلك الدور الذي يجب أن يخلفه فيه، لا أقول أحدهم بل مؤسسات تعمل على فتح أبواب التشريع والفقه للواقع وجعلها مصنعاً لأفكار أصيلة فاعلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.