منذ أن بدأت جلسات الحوار الوطني في 5 يوليو/تموز 2022، لا ينقطع الحديث في كل جلسة من جلسات الحوار عن توصيف طبيعة الحوار الوطني، فهل هو حوار بين سلطة ومعارضة؟ أم هو حوار مجتمعي؟ أم أنه حوار بين أحزاب سياسية؟
كل واحد من هذه الأمور والأوصاف الثلاثة بالتأكيد له خصائصه، ما يجعل هناك عدم إرباك أو ارتباك في وجود تقدير صحيح وواقعي لوصف طبيعة الحوار القائم في الوقت الراهن.
فالحوار المجتمعي هو حوار يدور عادة حول قضية واحدة، غالباً ما تكون مركزية ومحورية ومحل جدل ونقاش كبير في المجتمع، كالنقاش حول الدعم، أو التعليم، أو التأمين الصحي، أو شح المياه، أو عدم توافر الأسمدة الزراعية…إلخ. وغالباً ما تشارك أطياف واسعة من الناس، سواء من المتخصصين أو غير المتخصصين، في تلك الحوارات. لذلك كثيراً ما يكون الإعلام، سواء صحافة أو فضائيات، مشاركاً في تلك النقاشات، باعتباره أداة مفتوحة ومنصة لتلقي الآراء، عبر الرسائل المكتوبة، أو المداخلات المسموعة أو المرئية. وهكذا يكون الحوار المجتمعي مرتبطاً بقضية، وإدارة إعلامية، وأطرافاً ذا طبيعة تتسم بالاتساع.
بهذا المعنى السابق، لا يعتقد أن الحوار الوطني القائم حالياً في مصر حوار مجتمعي، فهو يشتمل على 19 قضية، تتضمن قضايا فرعية كثيرة جداً. ولا مكان للإعلام في إدارة هذا النوع من الحوار، وإن كانت التغطية الإعلامية والعلانية هي أساس قيام هذا الحوار، الذي يتسم بالوضوح والشفافية. كما أن هذا الحوار حوار رغم مشاركة العوام فيه، إلا أن تلك المشاركة مقيدة بمن أرسل مقترحات من أطياف وأفراد المجتمع إلى أمانة الحوار الوطني. إضافة إلى مشاركة الخبراء والمختصين الذين تقررت دعوتهم من مجلس الأمناء، والمعنيين بالقضية محل الدراسة من الشخصيات العامة، وذلك كله وفقاً للمادة 14 من لائحة سير الإجراءات بجلسات اللجان الفرعية بالحوار الوطني.
أما بشأن أن الحوار الوطني الحالي حوار بين أحزاب سياسية، فهو أمر أيضاً يحتاج إلى مراجعة. إذ إن الحوار بين الأحزاب السياسية في أي نظام سياسي يفترض أنه يقوم في مجتمع تتمتع فيه الأحزاب بقدر من الجماهيرية. وبالطبع لا يشترط أن يكون هذا المجتمع مجتمعاً متمديناً تتسم فيه الأحزاب بالقدم والرسوخ، لأن الحوار الوطني بدايةً لا يقوم في دولة ديمقراطية راسخة. فمثلاً نحن لم نسمع من قبل ولن نسمع عن حوار مجتمعي في فرنسا، أو الولايات المتحدة، أو اليابان، أو ألمانيا، أو المملكة المتحدة. أو حتى بلدان قطعت شوطاً معتبراً من التطور الديمقراطي في العقود القليلة الماضية مثل الهند أو إسبانيا أو اليونان. بعبارة أخرى، الحوار بين الأحزاب يكون في نظم سياسية بازغة تتسم القوى السياسية فيها بكونها جسراً بين الدولة والمواطن، ويتمترس حولها المؤيدون، وتكون الأحزاب مخططاً لها أن تكون رقماً مهماً في مستقبلها السياسي. والأهم، أن الحوار يكون على أجندة اختلافات حزبية عميقة وواضحة في قضايا محددة. المثال الواضح هنا لبنان أو العراق، حيث توجد خلافات حزبية، رغم كون الأحزاب موجودة على أساس مذهبي أو أحزاب أشخاص.
بهذا المعنى أيضاً من الصعب الحديث عن أن ما يجري في مصر هو حوار بين أحزاب سياسية، فالدولة المصرية رغم أنها تعيش اليوم ثالث تجربة حزبية لها، وهي التجربة التي بدأت في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1976، فإنه رغم مرور ما يربو على نصف قرن على نشأة الأحزاب، فإن أغلب الأحزاب ما زالت تحبو في مسيرة العمل السياسي، ولا يعدها كثيرون رقمًا فاعلاً في الحياة السياسية المصرية. فمعظم الأحزاب السياسية رغم كونها تعبر عن الشارع، فإنها فاقدة لعضوية المصريين، ويعوز معظمها إلى التنظيم الجيد، وتفتقد إلى الحوكمة، وينقص معظمها التمويل والدمقرطة الداخلية سواء في صنع القرار أو اختيار قياداتها، ما جعل الناس رغم تمسكهم بكثير مما تتمسك به من مواقف، يعزفون عن المشاركة فيها، لا سيما مع التضييق الأمني المتزايد للعمل الحزبي، وخشية الناس من الملاحقة جراء الانشغال في العمل السياسي. وكل ما سبق من أوصاف جعل المتخصصين أنفسهم يصفون الأحزاب المصرية بالكرتونية، فكيف لهم إذن أن يصفوا الحوار الحالي بأنه حوار بين أحزاب!
إذن يبقى الحديث عن كون الحوار الحالي حواراً بين السلطة والمعارضة، وهو أمر يتخوف كثيرون من أن يذكروه، حتى لا يعطوا الانطباع لرئيس الدولة بأن نظام حكمه به معارضة، على الرغم من أن وجود المعارضة هو أحد أبرز سمات التمدين في النظم السياسية الراهنة، فالمعارضة هي الرقيب على الأداء، وهي محط امتصاص الغضب، وهي الدرع الواقية من الإرهاب والعنف، ومن ثم فهي أساس الاستقرار، والداعم الرئيس للنظم السياسية من حالة عدم الاستقرار، أو اللجوء نحو الترهل والانزواء، وهي محط الشرعية للنظام الحاكم، وبها يتم التجنيد النخبوي، فيكون هناك بديل سياسي عوضاً عن الانجراف نحو المجهول المتمثل عادة في النظم السياسية غير المدنية سواء العسكرية أو الدينية.
وعامة، فقد تناول رئيس الدولة نفسه توصيف الحوار الوطني بما يفيد ليس فقط بكونه حواراً بين سلطة ومعارضة، بل إنه ركز على أن أساس هذا الحوار هو الإصلاح السياسي بين القوى السياسية، بمعنى أن الحديث عن قضايا اقتصادية أو اجتماعية في الحوار هو في المرتبة الثانية من الحوار الوطني الذي يرتجي كثيرون منه أن يركز بالأساس على الوضع السياسي. وفي هذا الصدد، يقول الرئيس في كلمته الداعية إلى الحوار يوم 27 أبريل/نيسان 2022، إنه "على المستوى الشخصي حريص على تفعيل برامج الإصلاح السياسي، ولكن كانت هناك أولويات في العمل الوطني خلال الفترة الماضية، ونود إطلاق حوار لكل القوى السياسية وعرض نتائجه على مجلسي النواب والشيوخ لمزيد من النقاش، بحيث يتم تفعيله مع إطلاق الجمهورية الجديدة".
من ناحية ثانية، فإن وصف الحوار الحالي- كما يقول عبد العظيم حماد (عضو مجلس أمناء الحوار الوطني)- بأنه حوار وطني، هو تماماً مثل أوصاف كثيرة ومصطلحات ومفاهيم سياسية عديدة تطلق على العلاقة بين الحكومة والمعارضة، مثل حكومة الإنقاذ الوطني، أو جبهة الإنقاذ الوطني، ومن ثم فإن ذلك دليل آخر على أن الموصوف هنا هو حوار سياسي بين حكم ومعارضة.
من ناحية ثالثة، إن الحديث عن أن الحوار الوطني أداة لاتخاذ قرارات قابلة للتنفيذ بعد أن ترفع تلك القرارات لرئيس الجمهورية فور انتهاء أعمال الحوار، لهو أمر دالٌ على أن الحوار الحالي بين سلطة ومعارضة، سلطة تعي تماماً أن المؤسسات الرسمية بالدولة لم تعد قادرة على أن تمتص حالة الغضب القائمة في المجتمع، وإلا كان قد وكل إليها الحوار، أو بالأحرى لم يكن هناك داع للحوار بداية؛ لعدم وجود خلافات أو انشقاقات هيكلية. بعبارة أخرى، لو كانت السلطة تعلم أن البرلمان أو الإعلام أو أجهزة الرقابة الأخرى قادرة على التعبير عما يجيش بالمجتمع، ولو كانت السلطة تدرك أن هناك مؤسسات دستورية تسعى إلى تفعيل ما جاء به الدستور من محاسبة وإعمال ما وعد به الدستور من أمور جوهرية في المحليات أو العدالة الانتقالية أو إصلاح شأن السلطة القضائية أو إحداث تداول سلمي للسلطة وإدارة نقاش حقيقي وواقعي لمشاكل المجتمع، (لو تعلم كل ذلك) ما فتحت الباب أمام وجود مؤسسة أخرى مؤقتة تقوم بكل هذه الأمور، التي عجز الآخرون عن القيام بها، بسبب ما فتئت عليه بعض تلك المؤسسات خاصةً البرلمان، من اتخاذ سياسات تتماهى مع سياسات السلطة والحكم، وتنحرف عن ممارسة دورها الرقابي تجاه ممارسة دور تمريري وتبريري، وكل ما سبق يمكن ملاحظته في وجود استجواب واحد أو اثنين للسلطة التنفيذية منذ برلمان 2016 وحتى اليوم، كأن الدولة والمجتمع قد خليا من المشكلات القضايا.
من ناحية رابعة، إن النزول إلى الشارع والاستماع إلى الناس عندما يسألون أعضاء مجلس أمناء الحوار عن مصير الحوار، أو أن يتحسسوا من الإعلام عن مسيرة الحوار ومآله ومستقبله، وتأخيره في حل المشكلات التي يعانون منها، لهو أبرز دليل على أن ما هو قائم معارضة حقيقية للأوضاع الراهنة، ورغبة في وجود حلول جذرية لها، وأمل في أن يكون الحوار الوطني هو الباب غير المطروق للخلاص من المشكلات التي يعاني منها المجتمع.
من ناحية خامسة، إن حديث السلطة عن أن الحوار مستثنى منه جماعة الإخوان المسلمين، لهو دليل آخر على أن الحوار القائم حوار سياسي وليس مجرد حوار مجتمعي أو حوار بين أحزاب سياسية مصرية.
وأخيراً وليس آخراً، فإن تشكيل مجلس الأمناء، وبعده بعدة أسابيع تعيين هذا الأخير لقادة محاوره الثلاثة ولجانه الفرعية الـ19 وفق قاعدة التوازن الحادث بين السلطة والحركة المدنية المصرية التي تضم المعارضة المدنية المشتملة على أحزاب وتيارات وشخصيات عامة معارضة، دليل آخر على أن الحوار القائم حوار بين المعارضة والسلطة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.