إن موسى عليه السلام ذو مكانة ومنزلة رفيعة، ومكانة موسى عليه السلام ليست ادّعاء بغرور النفس، ولا مظنونة تحتمل الصواب والخطأ، ولا استنتاجاً يُصدق أو لا يصدق، بل هي مقطوعة بوحي رباني صادق، لقد زكّاه ربه تبارك وتعالى، وكفى بتلك تزكية، وأين تأتي تزكية البشر أمام تزكية الله عزَّ وجَلَّ؟
إن اختصاص الله تبارك وتعالى له بالنبوة كاف في تزكيته ظاهراً وباطناً، فالله هو خالق البشر، وهو عزَّ وجَلَّ أعلمُ به، والنبوة تقتضي القطع لصاحبها بالإخلاص وصدق التديّن والعلم والعقل والتجرد لله سبحانه، ناهيك عن الصفات البشرية، فالله سبحانه وتعالى إنما يختار لرسالته أكمل الناس طبيعة وسجيّة، وخاطبه سبحانه وتعالى ممتنّاً عليه بالاصطفاء قائلاً له: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾، [الأعراف: ١٤٤]، ومع ذلك كله يتواضع موسى عليه السلام مع الخضر، فيخرج إليه ويصحبه متعلِّماً متأدِّباً.
ويتجلَّى في قصة موسى عليه السلام في القرآن الكريم مع التواضع الحقيقي والأدبُ النبوي لدى موسى عليه السلام، وله شواهد عدة منها: مبادرته بسؤال الله عزَّ وجَلَّ عن الخضر واللقاء به فور سماعه عنه.
تلطفه في طلبه من الخضر ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدَاً﴾، فأخرج الكلام في صورة الملاطفة والمشاورة، وهل تأذن لي في ذلك أم لا؟
جعل نفسه بمقام المتعلم، والخضر بمقام المعلم.
تعليقه استعداده للصبر بمشيئة الله، لا بقدرته وحوله: ﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرَاً﴾، [الكهف: ٦٩].
التزامه بطاعة الخضر وعدم عصيانه: ﴿وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرَاً﴾، [الكهف: ٦٩].
اعتذاره عن خطئه واستعداده لتحمل تبِعته وعذره للخضر؛ إذ قال له: ﴿قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾، [الكهف: ٧٦].
إن شخصية موسى عليه السلام تتصف بالتواضع حتى قبل النبوة، فقد وصفه الله بالإحسان ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ من مساعدة الفقراء والضعفاء والمحتاجين، ودخوله في مجتمع الرعي والبسطاء، بعد خروجه من قصر فرعون مهاجراً في سبيل الله تعالى، واتضحت تلك القصة مع أهل مَدْيَن ومجتمع الرعاة، وفي تعامله مع والد زوجته الرجل الصالح.
وعندما توسع علمه وأكرمه الله بالنبوة والرسالة زاد تواضعه وحرصه على التعلم ممن هو أعلم منه في بعض الأمور وعلوم الغيب، التي اختص الله بها الخضر عليه السلام.
إن موسى عليه السلام من أولي العزم من المرسلين الذين منحهم الله العلمَ، وأعطاهم منه ما لم يُعط سواهم، ولكن في هذا العلم الخاص كان عند الخضر ما ليس عنده، فلهذا حرص على التعلّم منه، وهذا دليل على صفة التواضع في شخص موسى عليه السلام.
ومن المواقف التي تتجلى فيها صفة التواضع في موسى عليه السلام، عندما أوحى الله إليه، وأرسله إلى فرعون، سأل ربه تبارك وتعالى أن يعينه بأخيه هارون، وعلّل ذلك بأن هارون أفصح منه لساناً، قال عزَّ وجَلَّ: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانَاً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءَاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ﴾، [القصص: ٣٤].
وهذا اعتراف بالفضل لأخيه هارون، مع أنه أفضل من هارون، فهارون لم يكن نبياً بعدُ، وعندما أُوحي إليه كانَ ذلك لشدِّ عضُدِ موسى عليه السلام.
وتواضع موسى تواضعُ حقيقي، وليس ادِّعاءً أو إظهاراً لشأن في النفس، فهو هنا يخاطب ربه ومولاه عزَّ وجَلَّ، العالم -سبحانه- بسريرته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.