كنت أحيا في مجتمع الظل داخل أقبية النظام الإسمنتية التي أصبحت سمة بارزة للنظام المصري الذي حول مصر إلى معسكر اعتقالٍ ضخم يمتد شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وأسفر ذلك عن الاشتباك الحياتي بالعديد من فئات هذا المجتمع. مشاهداتي لدواعش السجون كانت دافعاً لي للبدء في تدوين ملاحظاتي عن سماتهم وطبائعهم وبيئاتهم وتعليمهم وثقافتهم وحياتهم الاجتماعية فيما بينهم وبين الاَخرين. ثم بدأت في تقسيم الدواعش في السجن إلى ستة تصنيفات تُمثل واقعهم في مجتمعٍ هامشي يضم بين جنباته العديد من الفئات مختلفي الأيديولوجيات. كما ذكرت سابقاً بدأ التحول الفكري بمجرد إعلان دولة الخلافة من مسجد النوري بالموصل، حينئذٍ بدأ التحول الجذري نحو تبني أفكار داعش ومُبايعة دولة الخلافة داخلياً وإفراد التنظيم بالولاء والطاعة.
كنت كثيراً أرى جميع الفئات الأربع الذين ذكرتهم في المقالات السابقة عدا فئتين كانتا قليلتي الظهور؛ وهما الفئتان الخامسة والسادسة. أطلقت مُسمى فئة حراس المعبد على الفئة الخامسة، وكانت تتمثل خطورة هذه الفئة في إعداد الشباب للقتال والجهاد في صفوف التنظيم حين يتم إطلاق سراحهم. كان الأمر أشْبَهً بكابوسٍ ينمو ويشتد داخل كابوس، كابوس أن تعلم أن السجين الذي يجاورك في تواجدكم الكابوسي داخل السجن يراك كافراً ولا يرى مانعاً من القضاء عليك حين تحين له الفرصة؛ فأنت عدو قريب مثلك مثل النظام، والأولوية للقضاء عليكم قبل التحرك للقضاء على العدو البعيد.
يُمثل حراس المعبد من الدواعش في السجون أهمية شديدة لتماسك هذا المُجتمع داخل أسوار السجن، وخطورة في تجنيد الشباب واستقطابهم لتدعيم شبه التنظيم داخلياً، وتغذيتهم بالأفكار اليمينية المُتشددة لتنظيمهم الأصولي، في محاولة منهم لتحقيق مقاصد ومآرب التنظيم لإعداد شباب مجاهد يخدم مصالح دولة الخلافة في المُستقبل وتدعيم أركان التنظيم تحت ذريعة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية والجهاد وإقامة دولة العدل في الأرض والظفر بالجنة.
فى أثناء مشاهداتي لحراس المعبد واحتكاكي الشخصى بهم أثناء محاولة بعضهم دعوتي للإيمان واستمالتي لتغيير أيديولوجيتي وأفكاري الكفرية بإعلان الولاء لله ورسوله والتنظيم، وتقديم البيعة لأبي بكر البغدادي، وإعلان البراء من حياتي الكفرية وانتمائي لحركة 6 إبريل. كان ذلك سبباً لى في تكوين صورة عن سمات هذه الفئة التي تُمثل الذراع المُخلصة للتنظيم. تمتاز هذه الفئة ببنية جسدية رياضية حيث يهتم أفرادها ببناء قوتهم العضلية وممارسة تمارين اللياقة البدنية والسويدي وبعض الرياضات القتالية مثل المصارعة والجودو والجوجيتسو. وعلى الجانب الشرعي، يُكرس أفراد حراس المعبد وقتاً كبيراً لتلاوة وحفظ وتسميع القرآن الكريم، وقراءة بعض المؤلفات الجهادية المهربة داخل السجن؛ مثل مؤلفات سيد قطب وأبو مصعب السوري وأبو الأعلى المودودي وأبو بكر الناجي، فضلاً عن حضور مجالس العلم الشرعي التي يقدمها مشايخ الفئة السادسة من التنظيم داخل السجن، وهم أعلى السلم الهرمي للتنظيم.
يتبنى أفراد حراس المعبد الصفات العشر للفرد المسلم كما حددها حسن البنا والتي يجب أن يتحلى بها المسلم حتى يكون ترساً في نهضة دولة الخلافة وعزتها وكرامتها، وهي:
أولاً: سلامة العقيدة
ثانياً: صحة العبادة
ثالثاً: متانة الخلق
رابعاً: ثقافة الفكر
خامساً: قوة البدن
سادساً: القدرة على الكسب
سابعاً: تنظيم الشؤون
ثامناً: الحرص على الوقت
تاسعاً: مجاهدة النفس
عاشراً: النفع للغير
كنت قد قابلت شاباً من حراس المعبد وكان سجيناً محكوماً في إحدى قضايا الأزهر الشهيرة، ثم تم قبول النقض له ولزملائه في القضية وصدر الحكم بإخلاء سبيلهم على ذمة المحاكمة بعد قضاء ما يقرب من عامين ونصف. لم أشعر بالدهشة حين علمت أثناء تواجدي بالسجن الصحراوي أن هذا الشاب قد تسلّل إلى ليبيا والتحق بتنظيم داعش في ليبيا، وشارك معه في عمليات قتالية أسفرت عن مقتله. التقيت بهذا الشاب في إيراد أحد السجون، وكان يتودد إليّ طوال فترة مكوثنا في الإيراد والتي بلغت أسبوعين. كان يحادثني كثيراً كى يستكشف طبيعتي وكنت أعلم ذلك، فكان يجاذبني أطراف الحديث عن الحياة ويسألني عن منظوري لها. كان سعيه حثيثاً في سبر أغوار نفسي، وكان ضحوكاً دائم الابتسام. في أحد الأوقات حين بلغت الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل وتمت تهدئة الإضاءة وخلد العديد من السجناء في الإيراد إلى النوم، كنت أعاني من الأرق وكان عقلي لا يتوقف عن التفكير في ماذا بعد؟، فوجدت هذا الشاب يسألني بلطف عن مجالستي فوافقت، وبدأ الحديث عن دولة الخلافة، والإيمان والكفر، والولاء لله ورسوله والبراء من الكفر. كان يحادثني مبتسماً وأنه كان يعطيني في الأيام السابقة العُذر بالجهل، ثم سألني أما آن الأوان أن أعلن إيماني بالله ورسوله ومبايعة البغدادي على الولاية وأن أكون مُسلماً مؤمناً موحداً بالله ومجاهداً في صفوف التنظيم. الآن أقام عليّّ الحُجّة ولم يعُد هناك سبيل لتقديم العُذر بجهلي، فإما أن أكون في زُمرة المؤمنين أو أن أخلد كافراً نصيراً لأهل الكُفر.
الآن حَصْحَصَ الحق!
إما أن أتبعه، أو أن أكون عدواً له!
وكانت العاقبة هذا فِراقُ بَيني وَبَيْنِكَ، حين ابتسمت له مُعتذراً عن دعوته، وناصحاً له بألا يشغل باله بقضية إيماني أو كفري. حينها رأيت وجهه يتبدل ليرسم معالم الغضب والكره تحت شعاع الضوء الأصفر الخافت المنسدل من مصباح دورة المياه. لقد ضامرني العداء والكُفر حتى مغادرته حين تم إخلاء سبيله بعد عدة شهور.
لقد غابت سيرته عن ذاكرتي بمرور الوقت حتى علمت لاحقاً بعد بضع سنين لي في السجن أنه قد التحق بداعش ليبيا وقُتل في إحدى عمليات التنظيم.
هل لك أن تتخيل ما شعرت به؟
شعرتُ بالهزيمة وخيبة الأمل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.