أول أغنية سمعتها وأحببتها للموسيقار محمد عبد الوهاب، كانت أغنية "حكيم عيون" في فيلم "رصاصة في القلب"، والذي تم إنتاجه في عام 1944، وقصة الفيلم مأخوذة من رواية الكاتب الكبير توفيق الحكيم، وشاركته في البطولة الممثلة "راقية إبراهيم".
كان عمري 9 سنين، وأختي التي تصغرني بسنة وشهر تقريباً، كانت جالسة بجانبي على الأريكة مقابل التلفزيون، ووالدي كان جالساً على مقعده في كامل تركيزه يتابع الفيلم، فقد كان يقدّر فن موسيقار الأجيال ويحب السماع لأغانيه وألحانه. اندمجنا أنا وأختي الصغيرة مع الأغنية وصرنا نعيد أجزاءً منها ونضحك بعد انتهاء الفيلم، وخاصة المقطع الذي يقول: "عشان تحّرِمي تاكلي جلاس وتدوبي فى قلوب الناس"، فقد كان الحس الفني لدينا نحن الأختين، تقريباً، متشابهاً منذ الصغر.
قام والدي بعدها بفترة طويلة وفي مناسبة أخرى، بلفت انتباهي إلى أن محمد عبد الوهاب، كان الملحن العربي الوحيد الذي توفرت لديه القدرة والمهارة لتفصيل اللحن على مقاس الصوت الذي يلحن له، بالإضافة لذلك، لا تشعر بالفسحة بين مقطعي اللحن الوهابي. تصديقاً لكلام والدي، شاهدت لقاءاً تلفزيونياً قديماً مع الملحن محمد الموجي، يتحدث فيه عن مكالمة صباحية وردته من محمد عبد الوهاب، يلومه فيها، بعد حضوره للحفلة الأولى لأغنية "اسأل روحك"، والتي قام محمد الموجي بتلحينها لأم كلثوم في عام 1970، وكان عمر أم كلثوم يتجاوز السبعين آنذاك.
يسترسل الموجي قائلاً: "لامني عبد الوهاب وقاللي…في حَد يلحن لأم كلثوم وكأنه بيلحن ليها بالأربعينات؟!". ونصحه بتعديل اللحن واستخدام طبقة صوتية منخفضة، وفعلاً قام الموجي بتنفيذ إرشاداته، وتألقت أم كلثوم عند غنائها لـ"اسأل روحك" في الحفلة الثانية، وتلقى الموجى مكالمة أخرى من عبد الوهاب بعد انتهاء الحفلة، وسأله عبد الوهاب ضاحكاً: "إيه…غنينا كويس يا سيدي؟".
نجح موسيقار الأجيال بالقفز بين الثورتين الغنائيتين مقارنة بزملائه، فالثورة الأولى بدأت في العشرينيات من القرن الماضي، وكان من أبرز روادها، بالإضافة لمحمد عبد الوهاب، أم كلثوم وأحمد رامي ورياض السنباطي وزكريا أحمد ومحمد القصبجي. هؤلاء انتقلوا بالغناء العربي المتأثر بأساليب الموسيقى العربية التقليدية القديمة والتخت الشرقي ومقاماته والتلاوة القرآنية، إلى الطابع الارتجالي بصورة المواويل، والتأثر بالمدرسة الدرويشية، وتشكيل الفرق الموسيقية المنظمة على الطريقة الغربية. أما الثورة الثانية فبدأت في منتصف الخمسينيات، حينما انضم بليغ حمدي إلى محمد الموجي وكمال الطويل في تأسيس ظاهرة "عبد الحليم حافظ" المرتبطة بمفهوم الحداثة والمرتبطة بدورها بالنظام السياسي وشعاراته بعد حركة الضباط الأحرار في عام 1952، وأحدثوا نقلة نوعية في مستوى الغناء العربي بتجديد شكله ومضمونه، والتي كانت امتداداً لتيار عالمي نشأ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لا يحبذ النزعة المحافظة في الفن.
مأخذي الوحيد على موسيقار الأجيال أنه استعان بمقطوعات كاملة من الموسيقى الألمانية والإسبانية والكثير من موسيقى الفالس (Waltz) في 3 أغاني لحنها لأم كلثوم، وهي: أمل حياتي وفكَّروني وليلة حب، وأنا متأكدة أن هذه الأغاني الرائعة لم تكن لتتأثر لو تم مسح هذه المقطوعات الدخيلة عليها. ربما كانت اقتباساته أكثر في أغاني أم كلثوم، ولكن لم ألاحظها لأني لست موسيقِّية، ولم أستطع تمييز الموسيقى الغربية إلا في الأغاني التي ذكرتها. على الرغم من ذلك، فهو يُحيرني، وأتعب في تمييز ألحانه لأنه أتقن تنويع أساليب كتابته للموسيقى، وتطرق إلى معظم أنماط الموسيقى العربية وبعض الأجنبية خلال تلحينه للأغاني. لفترة قريبة، أو بالأحرى حتى تاريخ انتهاء إحدى صداقاتي الفاشلة، وهي كثيرة، فقد تعودت على تحدي صديقتي السابقة والمعجبة بألحان محمد عبد الوهاب، في لعبة تخمين، إذا ما كانت الأغنيات الكثيرة التي كنا نسمعها معاً لعظماء الزمن الجميل من ألحان موسيقار الأجيال أو غيره من كبار الملحنين الذين عاصروه.
مسحة الشجن تفضح ألحان بليغ حمدي، رغم تنوعها، ولكن بشكل خلاب لا تشويه فيه، أما ألحان محمد عبد الوهاب فهي ذكية وغير مرئية، من الصعوبة بمكان كشفها. عند سماعك أغنية "الويل… الويل" لعبد الحليم حافظ من كلمات الشاعر صالح جودت، تتفاجأ بأنها من ألحان عبد الوهاب مع أنها تعتبر من النمط الغنائي الشعبي التجديدي الذي أحياه بليغ حمدي. هنا تظهر للعيان عبقرية عبد الوهاب الفريدة من نوعها. عبد الوهاب كان يروّض اللحن حسب أهوائه ليتسلل خفية إلى قلوب وعقول المستمعين، أما بليغ فكان يستسلم للحن وينساب معه إلى آفاق عجيبة. لكل منهما مدرسته اللحنية الخاصة، ولكن لا جدال في الأثر العظيم الذي نتج عن هذه المنافسة الشريفة.
تتجلى عبقرية عبد الوهاب مرة أخرى في اللحن الخالد لأغنية "سكن الليل" للمطربة العظيمة فيروز. يقوم عبد الوهاب بملاعبة الأوتار الصوتية لفيروز خلال غنائها لسكن الليل، فتارةً يرتفع صوتها الملائكي وتارةً ينخفض، ولكن بسلاسة وانسيابية، كعادته لموسيقار الأجيال، والفارق أنه تفوق على نفسه وعلى غيره من الملحنين قبل انتهاء الأغنية، خلال المقطع التي تقول فيه فيروز: "ومليك الجن إن مرّ يروح… والهوى يثنيه… فهو مثلي… عاشق… كيف يبوح بالذي يضنيه". وبالذات عندما تصل فيروز في غنائها لكلمة "يثنيه" وتصدح بها لأول مرة، حيث يرتفع صوتها وينخفض على وتيرة واحدة لمدة 7 ثوانٍ، أما في المرة الثانية فيستمر السحر لمدة 10 ثوانٍ. نجح عبد الوهاب في هذه الأغنية بالتعامل مع صوت فيروز الذي يمكن أن يقال عنه "السهل الممتنع" وإيصاله لقمة التطريب العربي الأصيل، لأول مرة، وفي حين فشل الآخرون في ذلك، وفي مقدمتهم الرحابنة.
أبدع عبد الوهاب في التلحين لأم كلثوم، خاصة في التعاون الأول في عام 1964، بأغنية "إنت عمري"، والذي سُمي بلقاء السحاب، وحتى اللقاء الأخير بأغنية "ليلة حب" في عام 1973. لكن أود أن أنوه إلى أن عبد الوهاب عند تلحينه لأغنية "فكَّروني" تفوق على نفسه في التعبير عن الكلمات الرقيقة التي صاغها الشاعر الكبير عبد الوهاب محمد، عن حبيب كاد ينساه القلب أو يتناساه، ولكن تشاء الصدف التي لا تأبه بمشاعره أن تذكره بهذا الحبيب وقسوته وقدرته غير الإنسانية على البعد والهجران. نجح موسيقار الأجيال في "فكَّروني" بالسطو على كنوز بليغ حمدي من الشجن والشغف، وتصور انصهار المعاني معها، ثم رسم لوحات لحنية بديعة ومثيرة، نتجت عنها الانفعالات الطربية الكلثومية، خاصة عندما تغني:
وابتدا قلبي يدوبني بأهاته
وابتدا الليل يبقى أطول من ساعاته
وأسهر أسمع نبض قلبي بيناديلي
روحي فيك مهما جرى أنا روحي فيك
تسوى إيه الدنيا وانت مش معايا
هي تبقى الدنيا دنيا الا بيك
فهي تتعمد غناء المقاطع التي تظهر معاناتها بسبب الحنين مع ارتفاعات وانخفاضات في شدة الصوت ومداه.
ثم تقول:
يا حياتي أنا كلي حيرة ونار وغيرة وشوقي ليك
نفسي أهرب من عذابي نفسي أرتاح بين إيديك
هنا أم كلثوم ثائرة منذ البداية وتشكو بحرقة، وخاصة عندما تلفظ كلمة "نار" ويُدوّي صوتها كهزيم الرعد. ثم يتدرج بعدها عبد الوهاب بألحان متدافعة ولكنها خفيفة ومرحة، وتشعر بفرحة أم كلثوم، عندما تسمع ضحكاتها الخفيفة وترى ابتسامتها الجميلة عند غنائها لتلك المعاني العذبة التي تعترف فيها بأن الحب ما زال موجوداً والشوق كذلك.
اللي جوّه القلب كان في القلب هوّ
رحنا واتغيرنا إحنا إلا هوّ
هوّ نفس الحب وأكثر
هو نفس الشوق وأكثر…هوّ…هوّ
ثم يأتي التأكيد النهائي القاطع على الاعترافات السابقة، حين تقول:
فكَّروني ازاي…هوّ أنا نسيتك
إنت أقرب مني ليّا…يا هنايا
حتى وانت بعيد عليّا أو معايا
قرأت مرة أنه في أغنية "فكَّروني" بدأت ملامح التجربة الشعورية في الظهور بصوت أم كلثوم لمؤلف الأغنية عبد الوهاب محمد ولملحنها محمد عبد الوهاب. قارنت مدى عمق وسلاسة كلمات شاعرنا الكبير، وخاصةً في البيت الأخير، بالكلمات التي نسمعها في أغاني المهرجانات الغنائية في أيامنا هذه، مع أن المقارنة لا تجوز في هذه الحالة لأنه أمر يمكن أن يوصف بالمضحك المبكي.
يقال إن شاعرنا عندما قصد أم كلثوم بكلمات أغنية "فكَّروني" طالبها بأن يقوم بليغ حمدي بتلحينها، ولكن تصادف وجود محمد عبد الوهاب في منزل أم كلثوم، وكان معروفاً عن أم كلثوم سرعة بديهتها وذكائها الحاد، فخالفت رأي الشاعر وطلبت من موسيقار الأجيال أن يقوم بتلحين "فكَّروني"، وكأنها أرادت بذلك أن تتحداه بتلحين كلمات مكتوبة خصيصاً لبليغ حمدي، ويشهد التاريخ على اجتياز محمد عبد الوهاب للامتحان بتفوق.
كان محمد عبد الوهاب ذكياً ولمّاحاً، ويستطيع أن يستشعر الموهبة الكامنة قبل غيره، وهذا ما حصل عندما التقى لأول مرة مع عبد الحليم حافظ في عام 1952. وصف صوته بأنه شجي وتنبأ له بالنجاح الكبير، لأن لديه ثقة كبيرة بنفسه، وغنى إحدى أغنيات موسيقار الأجيال أمامه ولم يتهيَّب من غنائها بطريقته الخاصة. لم يندفع محمد عبد الوهاب لتبنّي موهبة عبد الحليم حافظ وقدراته العالية، بل تابعه عن بُعد، وعندما تأكد من نجاح أفلامه الستة خلال عامي 1955 و1956، قام بإنتاج أول فيلم له في عام 1957، ووهبه 5 ألحان جميلة ليغنيها في فيلم "بنات اليوم"، وهي: يا قلبي يا خالي، أهواك، ظلموه، عقبالك يوم ميلادك، كنت فين، والتي ساهمت جميعها في تزايد شعبية عبد الحليم حافظ. بعدها أصبحا صديقين وأسسا معاً شركة صوت الفن للإنتاج والتوزيع السينمائي.
قام محمد عبد الوهاب بتقمص دور الشاعر أحمد شوقي معه في علاقته وتعاونه مع عبد الحليم حافظ، والذي امتد لعشرين سنة، فقد كان المرشد الخبير للتلميذ النجيب. يجدر بالذكر أن فكرة "التبنّي الفنّي" ظهرت لأول مرة في عام 1924، عندما التقى أمير الشعراء، أحمد شوقي، بمحمد عبد الوهاب في نادي الموسيقى الشرقية بالإسكندرية، وأبدى إعجابه بفنه، وطلب منه أن يزوره في القاهرة. معروف أن محمد عبد الوهاب نشأ في حي شعبي اسمه "باب الشعرية" في القاهرة، وتكونت ثقافته البسيطة من خلال استماعه لشيوخ الغناء في الموالد والأفراح، ومشاركته بعد ذلك في الغناء في المسرحيات باسمه المستعار "محمد البغدادي" حتى لا يعثر عليه والده ويرغمه على إكمال دراسته في "الأزهر".
تبنى أحمد شوقي موهبة محمد عبد الوهاب وعلمه أصول الإتيكيت والغناء، وكيفية التعامل مع وسائل الإعلام، وقام بتعريفه على أصدقائه من عمالقة الأدب والسياسة في المنتديات. استمرت علاقة التبني الفني حتى وفاة أحمد شوقي في عام 1932، وقال موسيقارنا عنه، إنه كان الأب الروحي له وأستاذه في الحياة، وإنه فتح أبوابه ونوافذه على الفنون الغربية من خلال أسفارهما إلى أوروبا، وأنه علمه الشجاعة الفنية والأدبية.
تتعثر كلماتي للأسف عندما أحاول أن أعبر عن مدى تقديري وإعجابي بإنجازات وإرث موسيقار الأجيال، ولكن قرأت مرةً بعض الكلمات التي قالها الفنان المبدع "منصور الرحباني" عن صديقه محمد عبد الوهاب، وأظن أنه نجح في التعبير عما يجول في خاطر جميع محبي فن موسيقارنا العظيم:
"كانت جلساتنا معه غنية بالمتعة والخبرة. وهو كان ذا شخصية قوية، متأنقاً جداً ومتألقاً جداً وناضجاً جداً وله تجارب عظيمة، وهو الوحيد ذو الفضل الأكبر على الغناء والموسيقى في الشرق، هو الفنان الوحيد الذي لم يصدر عملاً إلا شاع، إنه سيد تأنيق الجملة الموسيقية واللفظ العربي. كان يعرف ماذا يريد وكيف يريده لأنه ذو اطلاع مذهل".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.