أول ما لفت انتباهي حين قررت قراءة كتاب أحمد الشقيري، هو عنوانه "أربعون يوماً".
حينها سرعان ما أصدرت الحكم أنه بالطبع يتكلم عن عمر الأربعين، وعن خبرات الكاتب وتجاربه وأحاسيسه لمن في مثل هذا العمر، لـكن موضـوع الكتاب فاجأني بما هو أعمق وأبعد وأقوى من ذلك بكثير.
إنها تجربة جريئة قوية مميزة.. قرر الكاتب أحمد الشقيري أن يخوضها وهي فكرة العزلة والانفصال التام عن أسرته وعمله وعن التكنولوجيا بكل أنواعها.
وقد شبه الكاتب هنا العزلة بالاعتكاف، وذلك لكي يقوم العبد بتحسين علاقته بالله -سبحانه وتعالى- وإصلاح النفس وتهذيبها ورؤيتها على حقيقتها دون أي مشتتات أو مؤثرات.
وأنه أراد تغييراً جذرياً في حياته واتخاذ قرارت مصيرية، وذلك عن طريق العزلة، لمدة أربعين يوماً.
لماذا الأربعون؟
أما عن سبب اختياره لرقم "أربعون"، ذكر الشقيري أن هذا الرقم مربوط بتغيير جذري حدث على مستوى الفرد والمجتمع وأحد هذه الأحداث "أن الطوفان في قصة نوح عليه السلام استمر 40 يوماً، وهو تغيير جذري لتزكية الكرة الأرضية بأكملها، وأوضح أيضاً أن كل شخص يستطيع أن يحدد مدة الخلوة التي تناسبه.
مفتاح التحرر من التعلق
أوضح الكاتب أن من أسباب قراره للخلوة هو "فك ارتباط النفس بما تعلقت به" من ملهيات الحياة اليومية، وأن لديه أهدافاً واضحة يريد أن يخرج بها من هذه الخلوة، ومنها تهذيب النفس والإقلاع عن بعض العادات السيئة والوصول إلى حالة السلام الداخلي التي عبر عنها القرآن الكريم "النفس المطمئنة".
من منا لا يريد أن يصل لهذا الشعور "النفس المطمئنة"، وكأن انعزالنا لفترة مؤقتة عن جميع المشتتات بأنواعها وتشمل "الناس، التكنولوجيا" ذلك يساعدنا كثيراً على تحقيق هذا الهدف.
ياله من قرار..إنه ليس بالأمر السهل.. تنفيذه لا يصدر إلا من شخص قائد نفسه أولاً.. شخص صاحب إرادة وقرار وهو مفتاح التحرر من التعلق "قرار البعد".
أخذنا الكاتب معه إلى رحلته بكل تفاصيلها ونواياه الطيبة، وراء هذه الخلوة، منها مساعدة نفسه، ثم مساعدة الآخرين
وكان واضحاً ومنظماً في تقسيمه لتقضية الأربعين يوماً مع المحاور العشرة الموضحة بالصورة:
شعرت هنا من تحديد الكاتب المحاور العشرة أنه أخذ القرار الأهم في هذه الرحلة.
لأن الهدف ليس فقط في تحقيق الخلوة، ولكن الهدف الأسـاسي: ماذا سيفعل في هذه الخلوة؟ وما الذي يريد أن يخرج بها منها؟ إنه قام بوضع الخطة:
قرر أن يملأ يومه جيداً أثناء هذه الخلوة بقراءة وكتابة وتأمل وصيام وقراءة قرآن وصيام وصلاة، فإدارك الكاتب لطبيعة النفس البشرية جعله يخطط جيداً لهذه الخلوة.
فقد نجح في إدارة يومه ومن ثم خلوته التي قام بها بكل إتقان وإحسان وقوة وعزيمة، ولولا هذا التخطيط أعتقد لما نجح في اكتمال هذه الخلوة إلى يومها الأربعين. وهذا ما نحاول أن نفعله أحياناً كثيرة في حياتنا، التخطيط الجيد لليوم وملأه بما ينفعنا ويثري عقولنا وأرواحنا.
أوقات ننجح وأوقات أخرى نخفق، لكننا دوماً نحاول، فإدارة وتخطيط معظم أيامنا تعادل إدارة حياة بأكملها.
كما أوضح الشقيري أن الإنسان من الممكن أن يوفر الكثير من الوقت، وأن يسرع كثيراً من مسيرة تحسين نفسه والارتقاء بها من خلال تجارب الآخرين حتى لا يبدأ من الصفر، حيث إن النفس البشـرية تعاني من نفس الآفات والتحديات المشتركة بيننا، مثل كيفية التعامل مع الغضب، الأمل، الضعف، اليأس، القلق، التخطيط، التواضع.
فوصف حِكم الآخرين بأنها مثل النور الذي ينير الطريق وقت الظلمة، والبوصلة التي ترشده للاتجاه الصحيح في التفكير عند التشتت والضياع.
في لقاء تلفزيوني قال أحمد الشقيري عن العزلة
اولاً: سبب العزلة كانت لنفسه وتحسينها وكيفية التعامل مع العقد النفسية التي تخصه والتي أيضاً موجودة عند معظمنا، وعادات سيئة نريد أن نتوقف عنها وعادات حسنة نحب أن نكتسبها، والتفكر في أسباب صراعات النفس الشبه مستمرة، وكيف أن هذا الصراع من الممكن أن ينتهى وتصل النفس إلى السلام الداخلي، ولا يدعي أنه وصل إليه بصورة كاملة، ولكن على الأقل وصل بنسبة كبيرة تجعله هادئ النفس مطمئناً.
اختصر الكاتب ما يريد أن يوصله في جملة، وهي:
"إن الله سبحانه وتعالى لا يريد منا الكمال، فالكمال لله وحده سبحانه، ولكنه يريد منا السعي المستمر نحو الكمال، وألخص في هذا الكتاب رحلتي عبر أربعين عاماً في هذه الدنيا: رحلة الصراع ومحاولة الترقي المستمر؛ بحثاً عن السلام الداخلي، فلا أدعي أنني وصلت، فالمشوار ما زال طويلاً، ولكنها تجربة بشرية قد ترى نفسك فيها، فتستفيد وتفيد".
ما أجمل الإنسان أن يسعى للتحسن المستمر، بل يشعر بنتيجة إيجابية، وأيضاً يساعد ويشجع غيره للوصول لنفس الإحساس الذي وصل إليه.
إنه الإحسان، ونشر الخير والجمال والسكينة للبشر.
قرار عزلتي القصيرة
لا أنكر أنني حاولت مراراً أن أقوم بمعايشة تجربة شبيهة، وهي تجربة الخلوة على الأقل بعيداً عن الناس والتكنولوجيا، حتى ولو في المنزل فقط، ولو ليوم واحد، لكن إحساسي بالتعلق بالأشياء من حولي أشعرني بضعف الإرادة، لذلك كان قراري أنى أبتعد عن التكنولوجيا والناس، ذلك لتقوية الإرادة عندي.
وبعد تكرار التجربة وتنفيذ الخلوة ليوم واحد فقط، جعلني ذلك أحس بشعور بأفضل وأتفاجأ بالإرادة التي بداخلي وقدرتي على ضبط النفس، ويا له من شعور رائع.
فخلال هذه الخلوة شعرت بالونس الحقيقي، ورأيت نفسي بوضوح أكبر، وشعرت بهدوء وسكينة، وكانت قدرتي على التخطيط أوضح وأيسر، وفكرت في مسار حياتي وكانت الرؤية أوضح وأقوى وأصفى، دون مؤثرات، دون مشتتات.
أما بالنسبة لوجود العائلة والأصدقاء، فهم بالتأكيد شىء مهم وأساسي في الحياة،
لكن ارتباطنا أو تعلقنا بهم بتوازن، هو هدف من أهداف "العزلة المؤقتة".
ورغم قصر مدة تجربتي، لكنها تحتاج إلى تخطيط جيد لكي تنجح، فإنك تحتاج إلى ملء هذا الفراغ الكبير الذي من المتوقع أن يحدث، فهو يوم كامل دون العضو الوهمي الأساسي في يدي (الموبايل)، فلا بد دائماً من اختيار البديل لملء هذا الفراغ.
ففي بداية اليوم أحسست بالطبع وكأن جزءاً مني قد فُقد، وأنه يوجد فراغ كبير رغم انشغالي، ونفسي تراودني بين الحين والآخر أن أفتح الموبايل، لكني قاومتها وقررت الاستمرار في البُعد وإكمال التجربة إلى آخرها.
بعد نهاية يوم كامل من العزلة عن كل شيء، أحسست بالقوة والقدرة والتحرر والنجاح وقوة اتخاذ القرار، بل قررت تكرار التجربة على فترات متقاربة قدر الإمكان، لكي تصبح أسلوب حياتي القادمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.