لا شك أن القضية الفلسطينية تمر بأزمة خذلان عربية، وسببها تحوّل بعض الحكومات العربية وهرولتها نحو التطبيع والارتماء في أحضان الكيان الصهيوني، هذه الوضعية المنحرفة عن مسار الأمة العربية أعطت للكيان فرصة بالغة الأهمية قد لا تُستدرك إن ضاعت، فهي لحظات إسرائيلية يجب أن تستثمر بأفضل صورة، والاستفادة منها لتثبيت أركان كيانه وتحقيق مشروعه الاستعماري الاستيطاني.
كما أن التطبيع في نسخته الحالية هو المرحلة الثانية للاحتلال الصهيوني من توسيع دائرته التي كانت محصورة بين دول الطوق إلى الخليج، وبذلك هو يحاول رسم البعد الثاني للاحتلال الصهيوني وبعث مشروعه، ليشمل شعاعه أغلب المناطق العربية فلا يكون معزولاً ولا ينتهي به الحال مندثراً.
إن إسرائيل مشروع له استراتيجية متعددة الأنساق، وله جدولها الزمني وتكتيكات متعددة تسمح بالمرونة أحياناً واحتواء المتغيرات التي تطرأ. كما أنه يحمل في صلبه مفاهيم متعددة ونظريات مختلفة لها أسس علمية ومعرفية، ومنه فالتعامل وحالة التطبيع لا بدَّ أن ينطلق وفق هذا المنظور، باعتباره استراتيجية مبنية على قواعد محكمة أكاديمياً ومعرفياً وثقافياً، ولها أبعاد ومستهدفات قومية وأيديولوجية.
ولذلك نجد أن جوهر التطبيع، بالنسبة للكيان الصهيوني؛ بمساراته ونسقه المتعددة، هو تصفية وليس لتسوية القضية الفلسطينية والوصول إلى قناعات الشعوب العربية والإسلامية به وتشتيت هويتها واهتماماتها.
بحيث تفرض الرؤية الصهيونية في تسوية الملف الفلسطيني، والسماح له بالاستفادة اقتصادياً وأمنياً من المحيط العربي الذي يتمركز في القلب منه، وتحسين مكانته الدولية بين الدول وافتكاك شرعية شعبية له؛ كل ذلك من دون أن يضطر إلى تقديم أية تنازلات.
ومن هنا تأتي أهمية البحث في سبل ومرتكزات وحدة الأمة في مقاومة الاحتلال والعدوان والتطبيع، وهي مفردات تحمل الدلالة الواحدة التي تبعث بالتفكير في ضرورة إيجاد عوامل نجاح الوحدة وآليات تنفيذها، وكيفية مقاومتها وإفشال استراتيجية الحلف الصهيوني.
أجد الاشتغال على دائرتين من طرف النخب والمختصين والمهتمين بالشأن الفلسطيني ووحدة الأمة العربية، أراهما في تقديري من أهم المواضيع إلحاحاً التي يجب تناولهما بالدراسة والتحليل والنقاش لمواجهة الاحتلال الصهيوني ومشروعه المدمر للوحدة العربية ومن أهم تلك الدوائر أذكر منها:
أولاً: دائرة المصالحة الفلسطينية
حينما نطرح عبارة "الاحتلال الصهيوني" يتبادر إلى الأذهان مباشرة المقاومة الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، وهي متلازمة ذهنية عند أي فرد من أفراد الأمة، وتشكل روابط في العقل الجمعي العربي تتسم أحياناً بالتداخل والتصارع الفلسطيني انطلاقاً من مرتكزات التفاوض مع الاحتلال أو مقاومته وما يفرزه ذلك من نتائج على الأرض وانعكاساته على القضية الفلسطينية.
فالتنسيق الأمني كأحد تلك المخرجات تضمنته بنود اتفاقية "أوسلو" لعام 1995 التي كرست هذا المفهوم المعوج في الفكر الممانع العربي، حتى تسكن أي محاولة تحرر ومقاومة للاحتلال وتراهن على الزمن. ومنه كانت المقاومة التي وصفت بالإرهاب من أهم المستهدفات من فكرة التنسيق الأمني؛ حيث جاءت اتفاقية أوسلو لتضع الإطار المفترض تبنيه ويقع مسؤوليته على السلطة الفلسطينية، والمتمثل في أن السلطة الفلسطينية مسؤولة عن مكافحة الإرهاب والإرهابيين، ومنع حدوثه واتخاذ الإجراءات المناسبة واللازمة بحقهم، وهو مضمون يراد به ملاحقة المقاومة والقضاء عليها من طرف السلطة الفلسطينية.
النتيجة المستخلصة من قاعدة التنسيق الأمني هي أن بقاء السلطة الفلسطينية مرهون بمدى تحكمها بملف المقاومة الفلسطينية، وأنه عليها تحديداً بصرف النظر عن أي مسؤولية أخرى تتبع كل أثر لرجال المقاومة والفصائل المنضوية تحتها سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة، وإفشال أي محاولة لوحدة الصف فيما بينها، وتعزيز قدراتها أو بناء حاضنة شعبية فلسطينية تمدها بالمقومات المختلفة المادية والمعنوية.
من هنا، تكون مقاومة الاحتلال بالنظر في أمرين؛ الأول هو تعطيل العمل باتفاقية أوسلو وإنهاء أي تنسيق أمني لذات الدواعي السابقة، ثم العمل على تعزيز مشروع المصالحة الفلسطينية الذي يجد له مبررات موضوعية أكثر نضجاً في هذا الوقت من الزمن.
ثانياً: دائرة التطبيع
يمكن أن نقرأ مضمون استراتيجية الكيان الصهيوني في التطبيع، والتي تقوم على مسلّمة أساسية لم تتغير لدى الكيان، ومن منظور قياداته، وهي أن العرب والمسلمين لا يمكن أن يقبلوا بتطبيع مع الكيان الإسرائيلي، ولا يمكن تصور ذلك، وهم في حالة من القوة والتماسك فيما بينهم، وبذلك العمل على إضعافهم تدريجياً وتغريبهم عن هويتهم وإبعادهم عن روابط انتماءاتهم القومية والدينية وحتى الإقليمية، وتفكيك الترابط فيما بينهم وبين كل المجتمعات الأخرى هو السبيل الوحيد لتحقيق وتنفيذ استراتيجية التطبيع.
ويمكن تلخيص ذلك في النقاط التالية:
– الانتقال من وضع العدو إلى الحليف، وتغيير الصورة النمطية الراسخة في أذهان عموم الأمة العربية والإسلامية.
– تغيير واستبدال فكرة العدو الصهيوني بعدو آخر يتم الاشتغال عليه وإظهاره كخطر داهم على الأمة.
– تنفيذ خطط التفوق الصهيوني على كل الأنظمة العربية والإسلامية بإيجاد سبل تعزيز قدرات شاملة للكيان، بتحالفات مع القوى الدولية والمنظمات الدولية وتقوية أركان الكيان في مجالات أمنية عسكرية اقتصادية تكنولوجية واستخبارية.
ولذلك تقوم الاستراتيجية الصهيونية للتطبيع على أساس رؤية محددة للصهيونية في علاقتها باليهود والعرب وبفلسطين وبالعالم الغربي، ومن خلال ظهور المتغيرات الحاسمة في التاريخ تم تحديد العقبة الرئيسية أمام التطبيع، وهي الرأي العام في العالم العربي والشعوب العربية الذي يحركه الدين والقومية، مما يستلزم مواجهة خطاب الشعوب العربية والإسلامية المرتكز على قيم ومبادئ هويته المتعلقة بالدين والقومية، ومنح مساحة أكبر لخطاب منافس يعيد تشكيل منظومة القيم والمفاهيم العربية بكل السبل الممكنة.
إحداث اختراقات سياسية وأمنية واقتصادية وثقافية تؤدي إلى تشتيت الرؤى والمنطلقات وتفتيت الانسجام داخل المجتمعات العربية والإسلامية.
ومن خلال هذه القواعد تقوم استراتيجية التطبيع في تصوري على جملة من النسق تتمثل في:
– التطبيع السياسي والأمني مع الحكومات العربية، والعمل من خلاله على عزل القضية الفلسطينية عن عمقها العربي والإسلامي والإنساني.
– التطبيع الثقافي من خلال تطوير قنوات للتواصل مع الجمهور العربي لتغيير صورة الكيان الصهيوني العدوانية، وإنتاج المشاريع الفنية الهادفة لموضوع التطبيع.
– التطبيع الاقتصادي والتجاري، من خلال الترويج لنظريات السلام الاقتصادي ومنح الفلسطينيين بعض الإغراءات الحياتية الاقتصادية، في مقابل تخليهم عن حقوقهم الاقتصادية التاريخية، وتلك نظرية رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير.
– التطبيع الإعلامي، من خلال تصوير الصراع العربي – "الإسرائيلي" على أنه صراع فلسطيني – "إسرائيلي".
– التطبيع التكنولوجي، من خلال الترويج للتعاون التقني الذي تتفوق فيه إسرائيل وما يحققه من مكاسب للأنظمة الحاكمة العربية، وخصوصاً البرمجيات التي تمكن هذه الأنظمة من البقاء، حيث يشكل بقاؤها مصلحة استراتيجية لإسرائيل.
– التطبيع التعليمي والمعرفي، من خلال التدخل في المناهج التربوية والتعليمية واعادة ضبطها حتى تنتج جيلاً جديداً لا يؤمن بفكرة الصراع العربي "الإسرائيلي" ولا يتبنى القضية الفلسطينية كثابت من ثوابت هوية الأمة.
– التطبيع الديني: وتعديل الخطاب الديني وإزاحة كل قيم التي تدفع إلى نبذ الكيان وتعريته كقوة محتلة ثم فصل الارتباط بين الأفراد والقضية الفلسطينية وجعلها قضية سياسية بين شعب فلسطين وشعب "إسرائيل".
كما أنه يعمل على زعزعة العقيدة الإسلامية من خلال تغيير المناهج والأفكار التي تبث عبر المنابر الدينية المتاحة.
– التطبيع الرياضي، وهو مدخل للشعوب، وخاصة في لحظات الحماسة والتنافس السلمي الممتع والذي تحمله الأدوات الإعلامية والدعائية لتكرسه في أذهان الشعوب والشباب، ولذلك صارت للرياضة دبلوماسية شعبية ولها قوة تأثير في الرأي العام؛ مما يجعلها أحد المدخلات في استراتيجية التطبيع في فتح مساحات أكثر داخل المكونات الشعبية العربية.
– التطبيع السياحي، حيث باتت السياحة أهم مقومات تطبيع العلاقات بين الحكومات والشعوب كما لها أبعاد اجتماعية واقتصادية واستخباراتية ودبلوماسية؛ مما يجعلها أيضاً يمكن الاعتماد عليها في تنفيذ استراتيجية التطبيع.
الخلاصة
من خلال ما تم ذكره نجد أن الكيان الصهيوني وحلفاءه جادون في عملية التطبيع لذات الأسس السالفة الذكر، فالمسألة وجودية بالنسبة لهم ولها مباعث أيديولوجية وأخرى تتعلق بالحكم والمصالح.
كما أن تشتت الرؤى العربية وضبابية المشهد العام الذي جاء نتيجة التحولات الدولية والإقليمية وانعكس على القضية الفلسطينية ودفع جزءاً كبيراً من الأمة العربية على مستوى الأنظمة لإظهار انحيازه التام إلى محور الكيان، مبرراً ذلك بمجابهة التحديات الإقليمية التي تفرضها إيران، أو أنهم كما يصورون لشعوبهم أنه يندرج ضمن مصلحة القضية الفلسطينية والسلام الإقليمي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.