لم يكن الكيميائي السويدي ألفريد نوبل، مخترع أصابع الديناميت، يدرك بالرغم من تفوقه العلمي أن ابتكاره سيكون مدعاة لنشر الموت، ففي اللحظة التي قرأ فيها نعيه على صفحة جريدة فرنسية بصفة "وفاة بائع الموت" حتى كان على أهبة أن يصحح خطأ حياته، فور ما ارتكبت تلك الجريدة خطأ إعلان موته بدل شقيقه الراحل.
ظل مهووساً بسُمعته التي تلطخت بالقتل، فآثر في صحوة ضمير أن يوصي بعد وفاته بإطلاق جائزة من ثروته البالغة 250 مليون دولار، لأفضل ابتكار في مجال الطب والفيزياء والكيمياء والأدب والسلام، خدمة لعبقرية الخير بدل عبقرية الشر التي جلبت له ثروة استحق بها صفة تاجر الموت.
ما كان يدري أن تلك الجائزة ستصبح على مدار عقود مثار جدل واسع، بسبب التناقض في معايير الإسداء، فتارة تمنح لكُتاب مناوئين للديكتاتوريات، وتارة تمنح لروائيين مُوالين لها، كما لو كان ثمة فرق بين ديكتاتور وديكتاتور.
أو أنها صارت لعبة لمحور ضد محور آخر، أو معركة مفاهيم ضد مفاهيم في حرب قيم ضد قيم.
ومع مرور الوقت، اتضح أنها وفي لحظات متفجرة بالنزاعات الدولية، مجرد مفرخة لصناعة رموز ثقافية ناعمة تستعمل بدقة ساعة احتدام الحروب الدبلوماسية، وما الفائزون بغض النظر عن قيمتهم الفنية، سوى أدوات تقود فيالق الرأي العام في حروب سرية ترتدي قبعة الأدب وجلباب السلام.
هي إذن حرب بطريقة أخرى، لا تختلف عن حروب أصابع الديناميت.
1- جائزة نوبل.. الشجرة التي تغطي غابة أيديولوجيا الغرب
ما من شك البتة في أن منح جائزة السلام لعام 2022، لكل من الناشط البيلاروسي أليس بيالياتسكي، ومنظمة ميموريال الروسية ومنظمة مركز الحريات المدنية الأوكراني، ليس بعيداً عن المزاج الأيديولوجي العام الذي يطبع الغرب في مواجهة الدب الروسي، على خلفية الحرب الأوكرانية، التي كشفت للمرة الألف، قصة ازدواجية المعايير، بين مركز العالم "أوروبا" والأطراف "بقية العالم"، تبعاً لنظرية المفكر المصري سمير أمين، أما الرئيس هواري بومدين فقد اختصر المشهد في جملة واحدة واكبت تأسيس منظمة دول عدم الانحياز في حوار شهير مع بول بالطا:
" إنه عالم بُني في غيابنا".
لذا فالحرب التي حدثت مرتين في أوروبا ستصبح حرباً عالمية، تماماً كما أشار لها جورج أرويل في روايته المرعبة "1984"، حيث يدفع العالم المتبقي ثمن معارك تدور بين قوى الليبرالية والقوى الشيوعية، كما لن يتردد الغرب للحظة في فرض نمط تفكيره وحياته على الآخرين حتى في مواضيع تتعلق بالدين والسلوك والمثلية والمرأة، لا بل حتى في الختان.
ففي ندوة إفريقية عُقدت في ليبيا سنوات قبل سقوط معمر القذافي فاجأ الزعيم الليبي الحضور بقصة هزلية صادمة: "تخيلوا لقد طرح علينا بعض الأوروبيين في إحدى جلسات النقاش، وصديقي عبد العزيز بوتفليقة شاهد على ما أقول، مسألة تتعلق بالختان بغرض مراجعته، فتصوروا الآن ما علاقة التعاون الدولي والديمقراطية والحرية بجلدة الحشفة تختبئ بين سراويل الذكران. ثم ما دخلكم إذا كان القذافي أو بوتفليقة مختن أو غير مختن؟".
يبدو الأمر هزلياً سخيفاً لكنه سيكون أشد وقعاً ووضوحاً حين يتعلق الأمر بقيم حضارية أو دينية أو مجتمعية ليس الغرب مستعداً للتنازل عنها لأنها تشكّل هويته التي حسمها وحددها دينياً وفلسفياً في إطار القيم اليهودية المسيحية، والإغريقية الرومانية، وذلك الغرب الذي يتحول من عالم حر صاحب رسالة ديمقراطية وحرية لا يفتأ عن الرغبة في تصديرها لبقية العالم، سيصبح أكثر ديكتاتورية من الجنرالين بينوشي وفرانكو في حال ما تعرضت مصالحه للخطر. سيتصرف بقلة أدب مع الكاتب العظيم فيودور دوستويفسكي الذي منعت جامعة ميلانو كتبه في قاعات الدرس بمجرد أنه من روسيا، بلد بوتين الذي أعلن الحرب على أوكرانيا.
2- لماذا مُنعت عن تولستوي وفيليب روث ومُنحت لستارباك وسولجنتسين؟
لم تخل جائزة نوبل للأدب من اللغط في أعوامها الأولى، ففي أول نسخة لها عام 1901، فاز بها الفرنسي برودوم الذي قد لا يعرفه اليوم أحد، وقد توقع العالم أن يكون الكاتب الروسي العظيم ليو تولستوي، صاحب روائع كونية مثل "الحرب والسلم" و"أنا كارينينا"، هو صاحب التاج في عامها الثاني، لكنه سينتظر سنوات طويلة امتدت بين أعوام 1902 و1906، دون أن يتوج بها رغم أنه شق طريق النقد والترجمة بشكل لا يبتعد كثيراً عن نبي الأدب الروسي دوستويفسكي، وأما مانع اللجنة السويدية فكان "اعتبارات دينية وسياسية" اختلطت بكثير من الخلاف السياسي المحتدم بين روسيا والسويد.
وأثار ذلك الموقف حفيظة اثنين وأربعين مثقفاً سويدياً، شجبوا التصرف غير المهني مع واحد من أكبر كتاب المعمورة، كما عبروا في رسالة، وجهت له، عن بالغ الأسف في أن يحجب اسمه المقروء عالمياً، لحساب كتاب لا يرتقون لكعب حذائه الأدبي.
واللجنة التي حرمت الأديب الروسي ذائع الصيت، ستقرر لأسباب مفاجئة أن تمنحها عام 1958 للكاتب الروسي لويس باسترناك نظير رواية وحيدة كتبها بعنوان "الدكتور جيفاكو"، في مخالفة صريحة لمبدأ تتويج الكُتاب عن مجمل مسيرتهم الإبداعية، التي قد تستشف منها فلسفة معينة، أو مشروعاً كتابياً كاملاً قد تكون رواية ما حاسمة في إسداء الجائزة، مثل "فاكهة تزين الكعكة الكبيرة".
وتلك الرواية التي هرّبت مخطوطة قبل أن ترى النور في مطبعة بميلانو، توجت كحالة نادرة، لسبب وحيد هو أنها كانت عظمة في حلق النظام السوفييتي، بما تضمنته من نقد وهدم للنظام الشيوعي ومشروع الاتحاد السوفييتي، وإزاء ذلك تعرض باستارناك لحملة شعواء نظير خيانته للأمة البلشفية، وتحوله لثعبان خرج من المجاري ليهاجم النسر الشامخ المحلق، كما كتبت صحيفة البرافدا الشيوعية.
شن الكرملين حملة ضده أجبر فيها على التخلي عن تسلم الجائزة، والاعتذار عن عدم قبولها لعدم الاستحقاق، وتعللت اللجنة بالقيمة الفنية للرواية الوحيدة، ولربما بقي ذلك التعليل صامداً لو لم يأتِ المؤرخ السوفييتي فريدريك تولستوي بكتاب "الرواية المغسولة"، كاشفاً حقيقة سرية ظلت حبيسة الأدراج، أشار فيها إلى أن تلك الرواية طبخت مضامينها في مخابر وكالة المخابرات الأمريكية، والمخابرات البريطانية وأجهزة أمنية أوروبية، كانت تسعى من ورائها إلى صناعة رمز مقاوم للشيوعية من روسيا وإعلان الحرب الأدبية على الاشتراكية في عز الحرب الباردة.
بعد أعوام سيتكرر المشهد ذاته مع الروائي الكبير سولنجتسين الذي كتب روايته الشهيرة "أرخبيل القولاق" منتقداً بحدة الشمولية السياسية السوفييتية، فمُنح جائزة نوبل للأدب عام 1970، لكنه لم يتسن له تسلمها بمنعٍ من الكرملين، قبل أن يغدو عقب إعلان البروسترويكا في عهد غورباتشوف وما ترتب عنها من تحلل الكيان السوفييتي والمعسكر الشيوعي، بطلاً قومياً ونجماً أدبياً تتهافت عليه بلاطوهات التلفزيونات الفرنسية والإنجليزية والأمريكية، ثم ليتم تجاهله لاحقاً، منعزلاً في بيته الريفي، بعد انتقادات لاذعة للغرب الذي جلب رئيساً سكيراً هو بوريس يلتسين، ثم أتبعها بكتابات هاجم فيها بحدة النظام الرأسمالي وشمولية السوق الليبرالية المتوحشة.
3- سلام موقع بدماء 250 فلسطينياً في مذبحة دير ياسين
لم تفقد نوبل للسلام ألقها الكبير وبشكل فاضح سوى عام 1978، حينما ظهرت كما لو أنها ثمرة تسوية سياسية انتهت بتطبيع الرئيس المصري أنور السادات للعلاقات مع إسرائيل، في ختام زيارته للكنيست الإسرائيلي والقدس والتوقيع على اتفاقية كامب ديفيد، إذ أعلنت اللجنة الأكاديمية المكلفة بمنح نوبل للسلام منحها له بالتناصف مع رئيس وزراء إسرائيل مناحم بيغين.
كان بيغين عُرف لدى سلطات الانتداب البريطاني على فلسطين، مطلع الأربعينيات، كواحد من مؤسسي كتائب إرهابية، ارتكبت عدة عمليات تفجير استهدفت فندق داوود وقتلت جنوداً بريطانيين حتى صار مطلوباً لدى بريطانيا، التي لم تتردد في أن ترصد مبلغ 15.000 جنيه إسترليني لكل من يساعد في القبض عليه.
لم يتوقف ذلك الجزار ذو الأصول البولندية، عن ارتكاب المزيد من أعمال القتل بحق الفلسطينيين إذ أنشأ منظمة "أرغون" الصهيونية التي اشتركت مع فصيل شتيرن في إبادة أكثر من 250 فلسطينياً ذبحاً وبقراً وتقطيعاً في قرية دير ياسين، شهر أبريل 1948، لا بل إنه ردد عبارة شهيرة "في دير ياسين أو غيرها سنهاجم بإرادة الرب. لقد اختارنا الرب من أجل هذا الهدف".
وتلك المذبحة لواحد من مؤسسي دولة إسرائيل خلفت سخطاً دولياً، فطالبت شخصيات دولية بسحب الجائزة الملوثة بدماء الأبرياء، دونما جدوى، إذ إنه سيصير، لاحقاً، زعيماً لحزب الليكود ثم رئيس وزراء إسرائيل، وإليه يعزى عملان آخران هما قصف المفاعل النووي العراقي، واجتياح لبنان عام 1982.
أما السادات الذي وقع الاتفاق مع مجرم دير ياسين، فقد اعتذر عن عدم حضور حفل التسليم، مفوضاً، السيد مرعي، رئيس حزب الشعب المصري بدلاً عنه، مردداً عبارة شهيرة كشفها الكاتب أنيس منصور: "لم أكن راغباً في أن ينالها معي، كنت أفضل أن أفوز بها وحدي، أو تمنح لنا، بطريقة لا تجمع بيننا في مجلس واحد".
4- الدايلي لاما.. الراهب الذي تحول إلى خنجر في عنق التنين الصيني.
واجهت الصين، ربيع 1989، حرباً إعلامية غربية كبيرة بعد أحداث ساحة تيان آن مين الشهيرة، حينما تظاهر الآلاف من الطلبة ضد الحزب الشيوعي، يتقدمهم نحت كبير لآلهة الحرية صُنعت تقليداً لتمثال الحرية الأمريكي، للمطالبة بالديمقراطية والإصلاح السياسي وحرية التعبير، لكن الجيش الصيني قمع المحتجين بقسوة عبرت عنها أرتال الدبابات التي عبرت الجموع.
ظلت الصين ترد على الغرب على مدار أعوام، أن فرض الديمقراطية كتجربة غربية محضة في الصين فكرة قاتلة غير قابلة للتطبيق؛ ذلك أنها دولة تعج بالعرقيات والقوميات، كانت تبنت، لهذا السبب، نظاماً موحداً درءاً للتفتيت، عن طريق الحرية الغربية غير المنسجمة مع المسار التاريخي والتجربة الإمبراطورية لشعب النمل الأزرق، على حد توصيف الزعيم الصيني ماو تسي تونغ.
لم يخطئ الصينيون التقدير، فما أن حل عام 1989 حتى منحت جائزة نوبل للسلام للراهب البوذي الدايلي لاما، زعيم حركة استقلال التبت، الذي صار بفضل ذلك الاستحقاق شخصية دولية معروفة، فاستطاع أن يزور أكثر من ثمانين دولة بغرض التعريف بحركته الانفصالية عن الصين. فبات واضحاً للعيان أن التقدير النوبلي لم يكن غير مطية لتنفيذ واحدة من الأجندات الغربية للعبث بوحدة الصين وتكسير أرجل العملاق الناهض في السياسة والاقتصاد والنمو الصناعي المتسارع، حتى وإن تطلب الأمر إثارة القلقلة العرقية باسم الحرية الدينية.
***
في حالات متشابهة تكرر لجنة جائزة نوبل نفس بروفايل الفائزين في مجالي الأدب والسلام، إنها تخرجهم مثل لاعب خفة من صندوق الأحابيل السياسية ذات الهدف الجيو استراتيجي لصناعة رموز وأوراق جوكر، تزعج الأعداء التقليديين للغرب مثل روسيا والصين وإيران، أو كل نظام لا يستوي على طريقة المصالح الغربية المثلى.
كما لو أنها تحشيد هائل ومكثف لقيم ضد قيم، ونظام ضد أنظمة، لدرجة أن كاتباً مرموقاً، مثل بروتون فيلدمان، كتب بخصوص جائزة نوبل للأدب: "إن الجائزة ترى على نطاق واسع، جائزة سياسية، جائزة نوبل للسلام متنكرة في زي أدبي".
وحقاً يعترف عدد من المديرين السابقين لهذه الجائزة، بأمر بالغ الأهمية، هو أن نوبل للسلام لم تمنح جائزتها للمهاتما غاندي رجل السلام العالمي، ونبي اللاعنف الإنساني في مواجهة عنف الاستعمار البريطاني.
هذا دليل آخر منسيّ، ختم عليه السفاح المتوج مناحم بيغين لا بالشمع، بل بالدم الأحمر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.