مأساة الزراعة خلف الجدار.. كيف حُرم الفلسطينيون من أراضيهم الخضراء ومحاصيلهم الزراعية؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/10/08 الساعة 12:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/10/08 الساعة 12:09 بتوقيت غرينتش
صورة أرشيفية للجدار العازل / رويترز

قاعدة: "كلما كان الجدار بعيداً عن الخط الأخضر، زادت مساحة الأراضي الزراعية الفلسطينية الواقعة في منطقة التماس".

في تقرير "Under the Guise of Security" لمنظمة بتسيلم ورد أن دان تيرزا، رئيس التخطيط للجدار في إدارة منطقة التماس، سُئل في مقابلة عن سبب عدم إنشاء الجدار على طول الخط الأخضر، أو على الأقل بالقرب منه، فقال:" إن القيام بذلك من شأنه أن يخلق خطراً مباشراً على المواطنين الإسرائيليين. وعندما نتحدث عن الحقوق، فإن الحق في الحياة أهم من الحق في الحصول على الأراضي الزراعية"!

وورد في التقرير نفسه أن المسار المعتمَد للجدار العازل الحالي يترك 55 مستوطنة (12 منها في القدس الشرقية) منفصلة عن بقية الضفة الغربية ومتجاورة مع دولة إسرائيل. وتشير دراسة خريطة المسار إلى أن مسار جدار العزل العنصري وُضع على بُعد آلاف الأمتار من المنازل الواقعة على أطراف المستوطنة وهو ما يتبع حدود خطة التنمية الهيكلية للمستوطنة المعينة، مما يجعل من المستحيل القول بعدم وجود صلة بين المسار والمخطط. وهكذا يتضح أنه على عكس الصورة التي تصورها الدولة، لعبت خطط التوسع الاستيطاني دوراً جوهرياً في تخطيط مسار الجدار.

مصطلح "مناطق التماس"

"منطقة التماس" ليست منطقة مادية ملموسة، بل هي منطقة اتصال رمزية وغير ملموسة واستطرادية، تمثل بُعداً آخر للاستعمار كعملية ذات أبعاد متشعبة.

يستخدم مصطلح منطقة التماس للإشارة إلى منطقة أرض في الضفة الغربية تقع تحت حكم الاحتلال وتقع شرق الخط الأخضر وغرب جدار الفصل العنصري، ويسكنها إلى حد كبير المستوطنون وجيش الاحتلال. من عام 2006، قُدِّر أن حوالي 57 ألف فلسطيني يعيشون في قرى تقع حبيسة في منطقة التماس، يفصلها الجدار عن بقية الضفة الغربية. قدرت الأمم المتحدة أنه إذا تم الانتهاء من سلسلة الجدران والأسوار والأسلاك الشائكة والخنادق على طول المسار المخطط لها، فإن حوالي ثلث سكان الضفة الغربية سيتأثرون- سيتمركز 274 ألفاً في منطقة حبيسة في منطقة التماس، وينفصل حوالي 400 ألف عن مجالاتهم، وظائفهم، المدارس والمستشفيات.

يقع 8.5% من الضفة الغربية والقدس الشرقية في "منطقة التماس" (المنطقة الواقعة بين الجدار والخط الأخضر). تحتوي هذه المنطقة على 60 مستوطنة، يعيش فيها حوالي 381 ألف مستوطن. عشرات الآلاف من الفلسطينيين الآخرين الذين يمتلكون أراضي في "منطقة التماس" الحصول على تصاريح لدخول أراضيهم الزراعية والعمل فيها. أظهرت التجارب السابقة أن نظام التصاريح يضعف بشدة حق آلاف الفلسطينيين في حرية التنقل والعمل وكسب الرزق.

الاستمرار في زراعة الأرض تحدٍّ يواجه المزارعين في مناطق التماس

إن تقييد حرية الحركة يتسبب بأضرار فادحة لآلاف المواطنين الفلسطينيين الذين يجدون صعوبة في الوصول إلى أراضيهم الزراعية وتسويق محاصيلهم في باقي مناطق الضفة الغربية. وتعتبر الزراعة واحدة من أهم مصادر الدخل الرئيسية في تلك القرى التي تتأثر بشكل سلبي من إقامة الجدار الفاصل في المرحلة الأولى، علماً بأن أراضي هذه القرى من أكثر أراضي الضفة الغربية خصوبة. فالمساس بقطاع الزراعة قد يؤدي إلى تردي الوضع الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإلى تدهور حالة العديد من العائلات الفلسطينية، ودفعها إلى خط الفقر.

ما فعلته "إسرائيل" بواسطة الجدار أنها فصلت السكّان عن أراضيهم في نحو 150 تجمُّعاً سكّانيّاً فلسطينياً في الضفة الغربية، وبضمنها أراضٍ زراعية وأراضٍ للرعي، إذ حُبست هذه الأراضي بين الجدار وبين الخطّ الأخضر. هكذا أغلقت إسرائيل في وجه آلاف الفلسطينيين إمكانية الوصول بحرّية إلى أراضيهم وحرمتهم من استخدامها. صحيح أنّ إسرائيل جعلت على امتداد الجدار التي أُنجز بناؤه 84 بوابة يمكن للفلسطينيين عبورها – نظريّاً؛ لكن هذه البوابات لا تتيح فعليّاً الوصول بحرّية إلى الأراضي الواقعة خلف الجدار بل كانت الغاية منها خلق صورة زائفة تُوهم بأن الحياة تستمر عادية.

رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية معظم الالتماسات التي قُدمت، وعددها أكثر من 150، وتبنت وجهة نظر الحكومة الإسرائيلية، بأن الجدار مؤقت ويراعي اعتبارات أمنية، وأن المس بحقوق الفلسطينيين لم يكن مفرطاً.. وقضت بأن النظام الذي يعتمده الجيش في مراقبة تنقل الفلسطينيين إلى منازلهم أو أراضيهم عبر الجدار اعتماداً على تصاريح خاصة "يحافظ بأكبر قدر ممكن على نسيج حياة الفلسطينيين، كما كانوا يتمتعون بها قبل غلق المنطقة"، وأن الضرر الذي نتج عن اعتماده، كان "متناسباً مع فوائده الأمنية المتمثلة في منع حصول هجمات فلسطينية على الإسرائيليين". كما أكدت المحكمة أن الحكومة "الإسرائيلية" تُدخل تحسينات على نظام التصاريح.

معاناة البوابات التي تعزل الأراضي الزراعية خلف الجدار

يمتد طول الجدار 770 ألف متر (85% في الضفة الغربية)، وبحسب "مركز الدفاع عن الفرد" فإنه يوجد 84 بوابة في هذا الجدار، 9 منها فقط مفتوحة بشكل يومي و 10 تُفتح مرة في الأسبوع، فيما بقية البوابات والبالغ عددها 65 تُفتح موسمياً، وهذه البوابات تمنع الفلسطينيين من حرية التنقل والوصول إلى أراضيهم خلف الجدار، بسبب القيود التي فُرضت على إصدار التصاريح، فأحياناً يضطر المزارعون الفلسطينيون إلى السير لمسافات قد تصل إلى 50 كيلو متراً للوصول إلى أراضيهم التي لم تكن تبعد عنهم سوى كيلومتر أو اثنين!

ترصد المؤسسات الفلسطينية 190 قرية وبلدة وتجمعاً سكانيّاً يعزلها ويؤثر عليها جدار العزل  العنصري، بينها 40 تجمعاً معزولة بالكامل، وتُعرف بـ"قرى التماس" مع "الخط الأخضر" (خط الهدنة الفاصل بين حدود فلسطين المحتلة عام 1948 والمناطق المحتلة عام 1967).

تُقدَّر مساحة ما عزلته إسرائيل عبر جدارها العنصري بـ 560 ألف دونم من أراضي الضفة الغربية المقدرة بـ5654كم2، والتي تساوي 22% من مساحة فلسطين التاريخية. ويستند الاحتلال إلى قوانين بعضها من العهد العثماني، لا سيما قانون الأرض البور؛ ليصادرها بذريعة عدم استصلاحها، بعد أن منع أصحابها لسنوات من الوصول إليها وفلاحتها أو البناء عليها.

تعتمد 37% من القرى التي يخترقها الجدار (67 قرية ومدينة في الضفة، بما فيها القدس) على الزراعة، وأصبح سكانها من دون مصدر للدخل، فالجدار العازل أضر بالأراضي في مناطق التماس، حيث انخفض إنتاج زيت الزيتون في الضفة الغربية بنحو 22 ألف طن سنوياً، إضافة إلى 50 ألف طن من الفاكهة، و100 ألف طن من الخضراوات. كما يمنع 10 آلاف من الماشية من الوصول إلى المراعي خلف الجدار. وأجبرت هذه القيود الكثير من المزارعين على عدم زراعة أرضهم، خوفاً من عدم الحصول على تصريح.

يستدل من المعطيات التي قدّمتها الإدارة المدنيّة لمركز الدفاع عن الفرد -"هموكيد" حول عام 2020؛ أن الجيش" الإسرائيلي" رفض 73% من طلبات المزارعين الفلسطينيين لفلاحة أراضيهم في منطقة التماس. وحتى من يستوفون المعايير وينجحون في التغلب على الإجراءات البيروقراطية ويحصلون على تصاريح، فإنهم يواجهون صعوبات إضافية للوصول لأراضيهم والعمل فيها.

يقول عبد الكريم أيوب، عضو المجلس القروي في عزون عتمة، ومتابع  ملف جدار العزل العنصري في القرية: بدأت معاناة أهالي قرية عزون عتمة في نهاية العام 2002، حيث أُغلقت القرية بكاملها ببوابة وحاجز عسكري للاحتلال، ولم يُسمح بالدخول إليها إلا لمن يحمل عنوان عزون عتمة على بطاقة هويته أو تصريح  صادر عن الارتباط المدني "الإسرائيلي".

استمرت المعاناة حتى العام 2015 حين قام الاحتلال بتعديل مسار الجدار وإكمال إنشاؤه حول القرية، فقام بعزل الأراضي الزراعية عن القرية من جميع الجهات خلف الجدار، 2400 دونم تقريباً. وهو ما أوقع أهالي القرية الذين يعتمدون في حياتهم على الزراعة في مشاكل من نوع جديد لم يعتادوا عليها؛ أصبح من الواجب عليهم الحصول على تصريح خاص لدخول أراضيهم خلف الجدار عبر بوابات زراعية، والتصريح يُعطى لمالكي الأرض أو أبنائهم فقط، والذين أخذوا يصطدمون بقضية رفض المنع الأمني، أو عدم تقديم ما يكفي من المستندات لإثبات ملكية الأرض، ويحدث في أحيان كثيرة أن التصاريح لا تُعطى إلا لكبار السن الذين لا يقدرون على العمل في الأرض، أو يُعطى لعدد قليل من الأسرة الواحدة، مثلاً 3 أفراد من أصل 10. كما يُمنع المزارعون من إدخال المهندسين الزراعيين ومرشدي وزارة الزراعة لعلاج المشكلات الزراعية التي تعترض عملهم في الحقول.  

وينوِّه أيوب إلى قضية البوابات الزراعية قائلاً: البوابات الزراعية أصبحت عقبة أخرى أثَّرت بشكل كبير على الزراعة في تلك الأراضي، ففي عزون عتمة يوجد 5بوابات، 2 منها تُفتح 3مرات يومياً صباحاً وظهراً ومساءً، وهناك بوابة ثالثة موسمية، تُفتح فقط في موسم قطف الزيتون من 3-7أيام في السنة، و2 لا تُفتح نهائياً. وهذه البوابات لا تُفتح في كل مرة إلا لدقائق لا تتعدى 20 دقيقة، وفي غالبية الوقت لا يلتزم الجنود بمواعيد فتح البوابات، الأمر الذي يخلق تحدياً آخر للمزارعين.

ويمنع الجنود على البوابات الزراعية المزارعين من إدخال المواد اللازمة للزراعة من أسمدة وأشتال، فضلاً عن منع إدخال سياراتهم والمعدات الزراعية والآلات مثل التركتورات، وهو ما يؤثر في كمية ونوعية الإنتاج الزراعي، فضلاً عن صعوبة إخراج المنتجات والمحاصيل الزراعية عبر البوابات للتسويق (والكلام لأيوب).

ويضيف أيوب قائلاً: ويُمنع المزارعون أيضاً من تنفيذ مشاريع تنموية تطويرية مثل استصلاح الأراضي وصيانة أنابيب الري والآبار الارتوازية، وإصلاح الطرق التي تجرفها سيول الشتاء.

كل هذه الأسباب أدت إلى تراجع كبير في الأراضي المزروعة خلف الجدار، فمن 1200دونم بيوت بلاستيكية مزروعة بالخضار، تراجعت إلى 400 دونم تقريباً، وتراجعت كمية الإنتاج إلى 60% عن السابق.

وبعد عام 2015 أصبحت الأمور أصعب وأعقد، ولا يستطيع المزارع التحكم نهائياً في الوصول إلى أرضه، بل مرهون بموعد فتح البوابات وموافقة الاحتلال ومنحه تصريحاً، ما أدى إلى توجُّه المزارعين إلى زراعة الزيتون.

ويضيف عبد الكريم بحزن قائلاً: أصبحت الأرض رهينة، وأصبح المزارع كمن يذهب  لزيارة سجين!

ذكرت الحملة الشعبية لمقاومة الجدار أن كيان الاحتلال أنشأ بوابات في الجدار بحجة السماح للمزارعين الفلسطينيين بالوصول إلى أراضيهم. ولكن هذه البوابات لا تضمن وصول المزارعين إلى أراضيهم، ولكنها تعزز سيطرة الاحتلال عليها بالتصاريح ونقاط التفتيش؛ حيث يتم الاعتداء على الفلسطينيين بالضرب واحتجازهم وإطلاق النار عليهم وإهانتهم على الحواجز. في عام 2019، تم تخصيص 74 بوابة و5 نقاط تفتيش على طول الجدار لوصول المزارعين إلى أراضيهم، من بينها 11 بوابة فقط تفتح يومياً، و10 بوابات تفتح لبضعة أيام خلال الأسبوع، بينما أغلبية البوابات التي يبلغ عددها 53، تُفتح فقط خلال موسم قطف الزيتون.

وهذه البوابات هي جزء من نظام القيود على الحركة المفروضة على الفلسطينيين، والتي يسعى كيان الاحتلال إلى الإبقاء عليها في الضفة الغربية المحتلة.

المهندس الزراعي، مازن السلمان، من قرية السلمان في محافظة قلقيلية، نوه خلال اتصال قائلاً: "تمتلك القرية أراضي مزروعة داخل الجدار، منها 10 دونمات تُزرع بالخضراوات الموسمية، و 40 دونم جوافة، 30 دونم حمضيات، و 300 دونم زيتون، و 50 دونماً تُزرع زراعة شتوية. وللوصول لهذه الحقول يضطر مزارعي قرية السلمان إلى السير كيلومترين شرقي القرية للوصول للبوابة الوحيدة في القرية، ثم يقطعون مسافة طويلة داخل الجدار؛ ليصلوا إلى أراضيهم التي تتركز في الجهة الجنوبية الغربية من القرية والتي أقربها تبعد 4 كيلومترات عن البوابة، ولاحظوا معي حجم المعاناة التي يتعرض لها المزارع الذي يُمنع عليه إدخال سيارته، فالاحتلال يسمح فقط بالدخول فوق العربات أو على ظهور الحمير. يفتح الجنود البوابة 3 مرات يومياً في وقت متأخر؛ ما يُفقد المزارعين فرصة العمل قبل اشتداد الحر".

صالح طاهر، من لجنة الدفاع عن أراضي جيوس، أفاد: "يوجد 5400 دونم من أراضي قرية جيوس داخل الجدار، يمنع الاحتلال المزارعين من استصلاح أراضيهم الجبلية في تلك المنطقة، كما يمنع تزويد آبار الري بالكهرباء أو بالخلايا الشمسية لإنتاج الكهرباء لتشغيلها، فهناك 4 آبار للري داخل الجدار، وتعمل على الديزل؛ ما جعل ساعة مياه الري تصل تكلفتها إلى 120 شيكلاً على المزارع، الأمر الذي دفع المزارعين إلى التركيز على زراعة الزيتون في تلك المنطقة.

الأراضي الزراعية في مناطق التماس تُخنق وتُقتل، لعل أهلها يهجرونها ويتوقفون عن زراعتها، بينما الأراضي المحيطة بالمستوطنات القريبة والتي صودرت، تزدهر وتتحول إلى حدائق غنّاء ويُستقطب المستوطنون ليسكنوها.. ولكن عجباً للفلسطيني الذي يتشبث بأرضه حتى الرمق الأخير، ويصرُّ على زراعتها حتى في أسوأ الظروف!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

زهرة خدرج
كاتبة وروائية وناشطة فلسطينية
كاتبة وروائية وناشطة فلسطينية
تحميل المزيد