“عاصفة الشتاء” ستفتك بأوروبا.. هل تنجح خطة بوتين في تدمير القارة العجوز؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/10/06 الساعة 11:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/10/06 الساعة 11:33 بتوقيت غرينتش
شتاءٌ قاسٍ ستواجهه أوروبا هذا العام - رويترز

على مدى ثمانية أشهر زرعت الحرب الروسية الأوكرانية الرعب في قلب أوروبا، على جبهة يبلغ طولها 1500 ميل، إنها حرب تقليدية يتم خوضها في الخنادق وعبر مبارزات المدفعية، لكن ما يجعلها مرعبة هو تمحورها حول أهواء الساسة الأمريكان والأوروبيين غرباً وشرقاً، إنها حرب لا يعرف مَن حضروها كيف سينهونها.

المواجهة الحالية بين روسيا والغرب بشأن أوكرانيا أسوأ أزمة تشهدها أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة، فمع الغزو الروسي لأوكرانيا من المحتمل أن تمتد الحرب إلى دول أخرى أعضاء في الناتو أو حلفاء له، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى حرب أوروبية أوسع، وربما مواجهة نووية وحده الله يعلم ما ستذر.

الغزو الروسي لأوكرانيا أزمة وجودية، وتهديد مباشر لنظام الأمن الدولي المستقر نسبياً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

ليست أوكرانيا وحدها على المحك، ولكن مستقبل الأمن الأوروبي، فمادام الرئيس فلاديمير بوتين ماكثاً في الكرملين ستشكل روسيا التهديد الأمني ​​الرئيسي للمصالح الغربية والنظام العالمي؛ ما يعني أن أوروبا والولايات المتحدة لن تكونا قادرتين على التفرغ للتهديد الصيني، وسيتعين عليهما معالجة كلا الملفين في الوقت نفسه.
ستشارك الولايات المتحدة بشكل أكبر في المسرح الأوروبي، رغم الحاجة إلى موازنة متطلبات وضع القوة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ومن المرجح أيضاً أن تعطي الولايات المتحدة الأولوية للقدرات البرية في أوروبا، بالنظر إلى الأصول البحرية اللازمة في المحيطين الهندي والهادئ، رغم الحاجة إلى تقسيم الأصول الجوية بينهما.

أزمة الغاز الأوروبية "عاصفة الشتاء"

تعاني أوروبا من أسوأ أزمة طاقة منذ 50 عاماً منذ خفضت روسيا شحنات الغاز المصدَّرة إلى أوروبا؛ رداً على العقوبات المفروضة على غزوها لأوكرانيا. أدى الضغط الروسي على القارة العجوز إلى تفاقم الأزمة ودفع الاقتصادات الأوروبية إلى حافة الركود، بل وحتى الانهيار، فالغاز الروسي يمثل لأوروبا منبع الحياة، حيث يعتمدون عليه في التدفئة في شتائهم القارس، بالإضافة إلى أن الكهرباء الأوروبية تعتمد معظمها على الغاز الروسي، كما أن المصانع الأوروبية عموماً، وخصوصاً الألمانية تعمل بالكهرباء، لذلك فإن وقف الغاز الروسي سيؤدي لمعاناة شعوب أوروبا الغربية.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين – Getty Images

سيؤدي فقدان إمدادات الغاز الطبيعي الروسي إلى استنفاد الاحتياطيات الأوروبية من الغاز بشكل سريع عندما تنخفض درجات الحرارة في الأشهر المقبلة، فيجعل عملية الاستعداد لموسم التدفئة صعبة مع عدم وجود بدائل سريعة كفؤة، ومن الممكن أن تستمر هذه الأزمة حتى عام 2025.
فوفقاً للعديد من المسؤولين التنفيذيين في مجال الطاقة، منهم دين هولاندر، كبير المسؤولين التجاريين في شركة الطاقة الألمانية العملاقة "Uniper SE"، فإنه "يمكن أن تواجه أوروبا أزمة كبيرة في الشتاء، ومن المحتمل ألا تتمكن الدول الأوروبية من ملء مواقع التخزين في الصيف المقبل كهذا العام".

ورغم محاولات الدول الأوروبية منذ اندلاع الحرب الأوكرانية تعبئة المخزون الاحتياطي لديها من الغاز، لكن في الواقع لم تتمكن أي دولة أوروبية لتخزين كميات من الغاز تستطيع من خلالها تجاوز شتاء أوروبا القارس، فقد أعلنت ألمانيا أن مخزونها الممتلئ بنسبة 84% لن يكفيها إلا 3 أشهر فقط.

أما فرنسا، التي توجهت إلى محاولة الاعتماد على الغاز الإفريقي فقط سقطت أيضاً في فخ، حيث إن خط الغاز النيجيري المزمع إنشاؤه سيحتاج إلى ثلاثة أعوام على أقل تقدير لإنشائه؛ لكي يكون البديل، ويتضح من ذلك كيف أن الترابط بين روسيا وأوروبا غير متكافئ، حيث يمكن لروسيا أن تنجو من العقوبات الاقتصادية خلال أشهر الشتاء القادم، إن لم تطُل المدة، وسيكون الاتحاد الأوروبي في أزمة عدم قدرتها على تنويع مصادرها من واردات الغاز بصورة آمنة.

أوروبا في موقف صعب لأنها مطالبة باستبدال جميع خطوط الأنابيب الروسية، والتي تشكل ربع الإنتاج العالمي من الغاز الطبيعي في عام 2021، ولذلك لن تتمكن أوروبا من تعويض 170 مليار متر مكعب سنوياً من دول بديلة، لأن عقود الغاز الطبيعي في جميع أنحاء العالم يخضع 62% منها لعقود متوسطة وطويلة الأجل.

لذلك، سوف تتعطل الصناعة الأوروبية وسترتفع أسعار الكهرباء، ما قد يؤدي إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل متكرر، بالإضافة للعديد من الآثار السلبية التي قد تحدث في البنية التحتية لدول الاتحاد الأوروبي، هذا السيناريو يسلط الضوء على أن اعتماد أوروبا الكبير على خطوط الغاز الروسية أحد أكبر نقاط ضعفها الاستراتيجية.

في المقابل، قطع إمدادات الغاز الروسية عن أوروبا يكبد شركة "غازبروم" الروسية خسائر تقدر ما بين 200 مليون دولار و230 مليون دولار في اليوم، وإذا استمر انقطاع الغاز على سبيل المثال لمدة ثلاثة أشهر، فالخسائر ستصل لـ20 مليار دولار، ولكن يمكن لروسيا تغطية هذه الخسائر بسهولة من خلال احتياطاتها من النقد الأجنبي البالغة 630 مليار دولار، ومن خلال توجيه مبيعات الغاز الروسية إلى مناطق أخرى بأسعار أعلى، وخصوصاً أنها استطاعت إنشاء خطوط جديدة لنقل الغاز إلى الصين.

لكن، تظل القدرة التحكم في تدفق الغاز الطبيعي لأوروبا هي النفوذ الأكثر أهمية وفاعلية لروسيا ضد دول القارة العجوز، وسيكون سلاحها الفعال لتجنب العقوبات والتأثير على رد فعل الاتحاد الأوروبي على الحرب الأوكرانية.

لقد ظنت أوروبا أنها يمكنها أن توفر ثلثي الغاز الروسي، بالغاز الطبيعي المسال المنقول بحراً من دول أخرى، لكن في الواقع البنية التحتية لدول الاتحاد الأوروبي لاستقبال الغاز المسال بحراً ليست متوافرة، حيث تفتقر أوروبا الوسطى والشرقية إلى خزانات الغاز الكافية، ولا يوجد في ألمانيا محطات لاستيراد للغاز الطبيعي المسال.
أضِف إلى ذلك أن العديد من الموردين المحتملين للغاز لن يسعوا في الدخول في منافسة مع روسيا بسبب أوروبا، حيث أوضحت قطر بصورة غير مباشرة أنها لن تزعج روسيا في قطاع الغاز، وذلك بحضورها مؤتمر منظمة شنغهاي التي تتزعمها الأخيرة.

لذلك خسرت أوروبا إحدى بدائلها المحتملين، والتي تمتلك ثالث أكبر احتياطي في العالم، والذي يقدر بـ14.4% من الاحتياطي العالمي، فلقد راهن مشترو الغاز في أوروبا على أن روسيا بحاجة إلى سوقهم، أكثر مما يحتاجون إلى الغاز الروسي، لكن من الواضح أن رهان الاتحاد الأوروبي قد خسر.

"الخيار اليائس".. ألمانيا تعيد إحياء توليد الطاقة بالفحم

الأمر لا يتعلق بالحرب فقط، فالإمدادات البديلة من الغاز باهظة الثمن، فوصلت أسعار الطاقة في كل من ألمانيا وفرنسا إلى مستويات قياسية، وهو انعكاس لحالة الطوارئ الكهربائية المتزايدة في القارة، بينما تنهار الدول تحت الضغوط الاقتصادية، فقد دعت الأوقات اليائسة لبعض الدول الأوروبية لاتخاذ تدابير يائسة، حيث أعلنت بريطانيا زيادة بنسبة 80% على مصادر الطاقة المنزلية، بينما زادت ألمانيا فواتيرها بنحو 500 يورو.

لقد أعلنت ألمانيا عن خطة لإعادة إنتاج الطاقة باستخدام الفحم وزيادة الطاقة المستخدمة لمحطات الطاقة التي تعمل بالفحم، ما يُقلل من استخدام الغاز في توليد الكهرباء.

ألمانيا أزمة الطاقة
المستشار الألماني أولاف شولتس / رويترز

هذا الإجراء اتخذه الوزير الفيدرالي من حزب الخضر سيستمر حتى ربيع عام 2024، يعني ذلك خروجاً تاماً عن استراتيجية الاتحاد الأوروبي للتخلص التدريجي من الفحم بحلول عام 2030.

لقد تسبب سلاح الغاز الروسي في تمرد إحدى أكبر اقتصاديات الاتحاد الأوروبي على اتفاقية "استراتيجية المناخ"، وهو ما يدلل أن دولاً أوروبية بدأت تسعى للتغريد منفردة خارج السرب، وهو ما يهدد توحيد الجهود الأوروبية الموحدة لمواجهة روسيا. 

ويعني ذلك أن أوروبا وللمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية أمام العديد من التهديدات والمواجهات الحاسمة، فإذا نجحت في تخطي الشتاء القادم بدون خسائر مفجعة ستمر معها السنوات التالية بسلام، أما إذا فشلت فستكون أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما الرضوخ لمطالب روسيا في أوكرانيا، أو ركود اقتصادي فتّاك من الممكن أن يؤدى لانهيار دول كبرى في القارة العجوز.

هل من الممكن أن ترضخ روسيا تحت ضغط العقوبات للغرب؟

بقراءة السجل العسكري والتاريخي لروسيا، من الصعب إجابة هذا السؤال، فلقد عانى الروس بالفعل من هزائم ساحقة مثل حرب القرم، والحرب الروسية اليابانية، وفقدان العمق الاستراتيجي في العديد من المواقع مثل الحرب العالمية الأولى، وسقوط الاتحاد السوفييتي، ومع ذلك تمكنت روسيا من إعادة تنشيط قوتها بعد العديد من الكوارث.
لكن الدولة الروسية تواجه هذه المرة معركة صعبة للغاية، ليس فقط في مسرح العمليات العسكرية، فالحرب الاقتصادية للغرب عليها تقوض قدرتها على الاستمرار في الحرب.

فقرار روسيا بقطع الغاز عن أوروبا ستكون له فاتورة ثقيلة على الاقتصاد الروسي، حيث ستُحرم الخزينة الروسية من مليارات الدولارات. صحيح أن البديل الصيني متوفر، لكنه يواجه صعوبات تقنية، فخطوط الغاز الروسية مع الصين لا يمكنها استيعاب كميات الغاز التي كانت تصدرها لأوروبا.

من سينتصر، روسيا أم الغرب؟

على الصعيد العسكري وجبهات القتال في أوكرانيا فالجيش الروسي لديه القدرة القتالية العالية في فصول الشتاء القارسة، وتحت درجات حرارة تحت الصفر في الشهور الماضية نرى أن روسيا قد خففت ضرباتها العسكرية، بل وانسحبت في العديد من المواقع التي استولت عليها من الأراضي الأوكرانية.

ورغم ذلك تستمر التهديديات الروسية بالغزو الكامل، فكما بدأت الحرب الأوكرانية، في فبراير/شباط الماضي، بالخداع الاستراتيجي؛ حيث حشد بوتين قواته على الحدود، بزعم إقامة مناورات عسكرية على حدوده الغربية، وعجز الكثير عن تفسير ما يحدث، وفجأةً يغزو الجيش الروسي أوكرانيا بعد انسحاب تكتيكي بزعم انتهاء المناورات، فما يحدث الآن من تخفيف حدة الهجمات الروسية طوال شهور الصيف، والانسحاب من بعض المواقع، قد يكشف تكتيكات الخداع الروسية، والتي تُنبئ بأن بوتين يستعد ويتجهز بكل قوة لمعركة  الشتاء، وبالتوازي يعلن بوتين عن نيته لضم المناطق التي سيطر بصورة كاملة عليها، لتصبح جمهوريات منفصلة عن أوكرانيا، وتابعة للاتحاد الروسي، من خلال استفتائه المزعوم.

ويأتي التكتيك الروسي وفقاً لتقارير أمريكية بأن الجيش الروسي يستعد للقتال وضم المزيد من المناطق الأوكرانية خلال فصل الشتاء، وفي المقابل نرى الرئيس الأوكراني في حالة انتقاد مستمر للغرب، للحصول على المزيد من المساعدات العسكرية والاقتصادية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، ولكن يأتي ذلك بالتوازي مع حالة ركود اقتصادي تشهدها كل من أمريكا ودول القارة العجوز، بسبب الحرب المستمرة منذ 8 أشهر.

فهل سيصمد الدعم الغربي بينما تستعد أوروبا لفصل الشتاء بقليل من النفط والغاز الروسي؟ هل سيصعد بوتين الحرب في فصل الشتاء؟ وهل سيكون زيلينسكي قادراً على الحفاظ على المقاومة ضد عدو مسلح نووياً؟ هذا ما سيكشفه فصل الشتاء القادم.

فأشهر الشتاء الأوروبي ستكشف عن اثنين من السيناريوهات لا ثالث لهما؛ فإما الانهيار الكامل للقارة العجوز والصعود التاريخي للدب الروسي، وإما انهيار روسيا وصعود الولايات المتحدة وحلفائها من جديد.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

إسلام زعبل
صحفي وباحث سياسي مصري
صحفي وباحث سياسي مصري، تهتم أعمالي البحثية بمجال الجيوبوليتيك، والدراسات الأمنية، ونظريات العلاقات الدولية، وسياسات القوي الكبرى والإقليمية وبالأخص قضايا الشرق الأوسط
تحميل المزيد