يقولون ويكررون اليوم:
– "من يملك الأدوات يمكنه الرجوع على الفقهاء".
– "لو جئتم بالأدلة وبأبحاث محكمة، فلا مانع من تغيير الفتوى، فتفضل وأرنا شطارتك".
– "الإسلام ليس فيه كهنوت والمهم الصواب، ولقد رجعتْ امرأة على عمر أمير المؤمنين والفقيه".
هذا ما يشاع ويحاججون به كل مجدد حريص ومواكب للواقع. فسألتكم بالله:
هل يوجد أحد في هذا العصر أمتن علماً وأعمق فقهاً وأوسع إلماماً من الشيخ يوسف القرضاوي؟!
رغم ذلك لم يتقبل الكثيرون اجتهاداته المدعومة بالنصوص؟! فقامت عليه العامة وأسقطه بعضهم؟! ونقده الفقهاء المعاصرون: حين خرج عن المألوف وعما اعتادوه، فأعاد دراسة بعض المسائل الفقهية القديمة.
وأضرب هنا مثلاً واحداً بجهده الجبار بقضية "تنصيف دية المرأة" بندوة نظمها المجلس الأعلى لشؤون الأسرة بالدوحة 2004، وشارك فيها علماء دين وقضاة وحقوقيون، فلوحظ فيها اتجاه متحفظ وقوي يرفض المساواة بين الرجل والمرأة بالدية، ودليلهم: الذكر ليس كالأنثى، ولقد جرى العمل بهذا منذ سنين طويلة، فكيف يمكن أن نخطّئ السابقين؟!
فهل هذا دليل؟! وهل تُقبل هذه الحجة من علماء دين؟! ألا يؤكد هذا التحيز والميل ضد المرأة عند ثلة من المعاصرين، وعدم الرغبة بمراجعة الأمور التي تم فيها غبن النساء.
على أن القرضاوي كان جريئاً ومتيناً بالعلم، فأصر، وقال: "مسألة الدية محل اجتهاد، ولو اتفقت عليها المذاهب الأربعة، إذ ليس فيها حديث متفق على صحته، ولا إجماع مستيقن، ولا قياس معتبر، فلا دليل يساند رأي القائلين بالتنصيف، ولا مانع من إعادة النظر فيها. ودعّم رأيه بما ذهب إليه محمد رشيد رضا وشلتوت وأبو زهرة والغزالي. ونجح وتمت المساواة، وغيّروا القانون في قطر.
ولكن وهنا الطامة:
لو فتحتم الآن أي موقع فقهي وبعضها قطري لوجدتم ما يلي: "جاءت النصوص الشرعية الصحيحة تثبت أن دية المرأة المسلمة الحرة على النصف من دية الرجل المسلم الحر، ووقع على ذلك إجماع أهل العلم إلا خلافاً شاذاً"؟!
فأين فتوى واجتهاد الشيخ القرضاوي وغيره؟! وهل هناك إذن فائدة من تملك الأدوات ومن الاجتهاد والعلم إذا كان كل شيء سيبقى على ما هو عليه، ولو تبين الخطأ فيه؟!
ولكن الذي يقهر أكثر، ذلك التعليل الموجود في المواقع الفقهية:
"والواجب على المسلم التسليم والقبول لحكم الله -عز وجل- سواء عرف حكمته أو لم يعرفها بدليل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً}، و{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْن حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}، وعلل بعض العلماء الحكمة، فقيل في إعلام الموقعين: وأما الدية فلما كانت المرأة أنقص من الرجل، والرجل أنفع منها، ويسد ما لا تسده المرأة من المناصب الدينية والولايات وحفظ الثغور والجهاد وعمارة الأرض وعمل الصنائع التي لا تتم مصالح العالم إلا بها، والذب عن الدنيا والدين لم تكن قيمتهما مع ذلك متساوية وهي الدية، فإن دية الحر جارية مجرى قيمة العبد وغيره من الأموال، فاقتضت حكمة الشارع أن يجعل قيمتها على النصف من قيمته لتفاوت ما بينهما".
فهذه التعليل حمل 4 أمور خطيرة، وأمر خامس مهم جداً:
1- هل هذا حكم الله؛ أم هو اجتهاد؟! فعلام التضليل؟ وبالتالي كيف يكون رفض "الاجتهاد القديم" إثماً أو حراماً؟!
2- أليس في تجاهل -ما خلص له القرضاوي والمجلس القطري- إغفال وإيهام للسائل، أو نسف لكل اجتهاد، ولو كان من الراسخين بالعلم؟!
3- هل من الإنصاف ومن العلم: "الإصرار على الفتاوى القديمة، ولو كانت قائمة على حديث ضعيف، أو قياس فاسد، أو اجتهاد بشري قد يخطئ"؟
4 – التعليل الذي يوردونه وينقلونه: ألا يؤكد ويرسخ أن تنصيف دية المرأة استحقار لها ولدورها بالحياة؟!
وهنا الكارثة، وهو ما بتنا نتحدث عنه ونشير إليه؛ ومن أجله أنهى القرضاوي أدلته بقوله "ضرورة النظر في مسألة الدية من زاوية تكريم المرأة".
وانظروا لهذا الأمر الذي تنبه له الشيخ وركز عليه، وهو مهم وفاصل، فتنصيف الدية هو "انتقاص من نفس إنسانية" ولا شك في هذا؛ مهما برروا وعللوا… بل حين نقرأ فتاويهم، نجد أنه فعلاً انتقاص.
وأما فكرة أن "الرجل عائل والدية تعويض مادي"، فهي غير مقنعة، وتُستعمل لتخدير المرأة والاستخفاف بعقلها، ولذلك القرضاوي نفسه فنّد هذه الحجة ورفضها فقال: "هذا الأمر ليس له اعتبار في الشريعة بدليل أن دية الطفل الصغير مثل الكبير والفراش مثل البروفيسور".
فلا تتاجروا بها أيها المؤثرون، ولا تلعبوا بعقول النساء.
5- نقل المغني أن تنصيف دية المرأة عليه إجماع، إلا ابن علية والأصم قالا: ديتها كدية الرجل. وعلق: "وهذا قول شاذ يخالف السنة وإجماع الصحابة". وهذا يدل على أن مما يُنقل إلينا وكأنه إجماع ليس كذلك، ويدل على أن ما صنف كقول شاذ قد يكون هو عين الصواب. فانتبهوا.
والخلاصة أن جهود الشيخ كانت واقعية ومعاصرة وعميقة، وخسارتنا بذهابه كبيرة، ونسأل الله أن يعوضنا
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.