لا أظن أن هنالك صدفة ما قد جعلتك مهتماً بالدوري الإندونيسي في وقتٍ من الأوقات، فلم يوجد هنالك لاعبٌ استطاع جذب الانتباه، ولا نادٍ حقَّق نجاحاً خارجياً أكسب الدوري شعبيةً، وبالتالي لم تكن تعرف شيئاً عن مباراة بين غريمين، هما نادي أريما إف سي، وبيرسيابا سورابايا.
وللأسف وعلى غير العادة جُمهور الفريقين لن يكون سعيداً بالشهرة التي حصل عليها فريقهما المحلي المفضل، وأنه أصبح الخبر "التريند" على مستوى العالم.
فتلك الشهرة حدثت بسبب حادثةٍ صُنّفت كأسوأ حادث تدافُع في تاريخ كرة القدم الحديث.
وإذا قمتَ باستبيان بين مشجعي كرة القدم حول العالم عن أخطر الملاعب التي لربما تتعرض لمثل تلك النكبات ستكون أمريكا الجنوبية في الترشيحات الأولى، تتلوها الجماهير الإنجليزية في تعصبها لكرة القدم وأعمال الشغب المعتادة منها.
لكن الملاعب الشرق آسيوية عامة والإندونسية خاصةً ستكون بعيدة كل البعد عن مثل تلك الترشيحات، فما نعرفه عن تلك الشعوب في طريقة تشجيعها أو احتفالاتها أو سلوكها في الملعب وخارجه لا يجعل مثل تلك الأخبار معتادة.
وبالنظر إلى تقرير أصدرته "بي بي سي" عن أسوأ الكوارث التي حدثت في تاريخ ملاعب كرة القدم، استطعنا رؤية سبباً ما مشتركاً بين أغلب تلك الحوادث.
ذلك السبب سيعرفه أغلب رواد الملاعب الذين اعتادوا على مشاهدة المباريات بعيداً عن الشاشات، خصوصاً في ملاعبنا العربية.
فذلك السبب هو ما سيجعلك تستيقظ للنزول للمباراة قبلها بساعاتٍ وساعات؛ نظراً لطول "الطابور" أو لصعوبة ما ستواجهه من "تفتيش"، بل وعليك الالتزام بزيٍّ معين وبسمت معين يشبه ما يريده مدير المدرسة الابتدائية من طلابه.
فلا يُسمح بالشعر الطويل أو بقميصٍ عليه أرقام قد توحي برمزية معينة فلا تجد 74 أو 22 أو 20.
وفي حال أنك لم تكن تعرف ذلك فإما سيتنهي بك الأمر في سيارة حتى نهاية المباراة، أو بدون قميص حتى صافرة الحكم، وعودتك إلى المنزل إن كان هذا يوم حظك.
تلك هي "شرطة الاستاد"، والتي ستكون كابوساً لك كمشجع كرة قدم، وستكون شوكةً تنغِّص عليكَ يومك، وسبباً قد يجعلك تُقسم أنك لن تأتي لمشاهدة مباراة في الاستاد حتى مماتك.
ولكن هل يمكن أن يصل هذا لدرجة أن يتسبب في مذبحة في كل ركنٍ من أركان العالم؟
الغاز المسيل للدموع سلاح قاتل
في أوروبا أصبحَ دور الشرطة داخل الملاعب مختلفاً تماماً عن بلدان العالم الثالث، حتى إننا لَم نعد نسمع عن حوادث مثل تلك مع جماهير أكثر خطورةً من الجماهير الإندونيسية.
فلم يعد استخدام أي نوع من أنواع الغاز مسموحاً به للسيطرة على الجماهير، وهو ما يُشدد عليه الفيفا، لما يُسبّبه من تدافُع وخطورة على الحضور.
وتاريخياً لـ"الغاز" علامات تاريخية سوداء في عِدة حوادث داخل ملاعب كرة القدم، ليست أولاها حادثة إندونيسيا.
ففي عام 1964 حدثت نكبةٌ في كرة القدم، تعد واحدةً من الأسوأ في التاريخ أدت إلى وفاة ما يزيد عن 320 شخصاً في البيرو، في مباراة بين البيرو ومنتخب الأرجنتين في التصفيات المؤهلة للأولمبياد.
فبعد اقتحام الجماهير البيروفية الملعب خلال المباراة ردت الشرطة بإطلاق الغاز المسيل للدموع بقوة، ما أدى إلى تدافع ضخم نحو البوابات للخروج والهروب من الاختناق، لكنهم وجدوا البوابات مغلقة، ما تسبّب في تدافع أدى لسحق الجماهير بعضها البعض.
الحادثة التالية في القارة الإفريقية، وفي الدوري الغاني، عام 2001 في ملعب أكرا الرياضي، حيث حاولت جماهير أشانتي كوتوكو إثارة الشغب بعد خسارتهم المباراة في الدقائق الأخيرة، لكن الشرطة ردت على ذلك بإطلاق للغاز أدى لاندفاع الجماهير نحو البوابات الموصدة؛ ما تسبب في وفاة ما لا يقل عن 120 شخصاً، كواحدة من أسوأ المجازر في تاريخ الكرة الإفريقية، وألقى تحقيق رسمي باللوم على الشرطة، واعتبرها المتسبب في الحادث لما قامت به من مبالغة في رد الفعل.
في مصر أيضاً لن ينسى أحد ما حدث في استاد الدفاع الجوي، في مباراةٍ بين الزمالك وإنبي في الدوري المصري في عام 2015.
وعلى الرغم من أن أعداد الجماهير لم تتجاوز الخمسة آلاف في ذلك اليوم فإن الشرطة قررت أن دخول الجماهير للملعب سيتم بالعبور داخل "قفصٍ حديدي"، وأجبروا الآلاف من الجماهير على المرور داخله، ما أدى لحشر الناس واكتظاظه بالمشجعين، الذين بدأو بالاستغاثة بقوات الأمن لفتح البوابات، ولكن قوات الأمن ردت على ذلك بإطلاق قنابل الغاز بكثافة شديدة، ما تسبب في وفاة ما لا يقل عن عشرين شخصاً من جمهور الزمالك ورابطة "أولتراس وايت نايتس".
وزارة الداخلية المصرية برّرت ما فعلته بأن الجماهير حاولت الدخول بقوة دون وجود تذاكر، وهو ما نفته الجماهير بنشرهها صوراً للتذاكر التي كانت تحملها بالفعل أثناء الدخول.
ومع وصولنا لـ2022 واكتشاف العديد والعديد من الطرق لفض الشغب والسيطرة على الجماهير لحمايتها، أصبح استمرار استخدام الغاز في المناسبات الرياضية هو محاولة قتل للجماهير بدم بارد.
فلم تعُد الشرطة هي الحل الأنسب لحماية الجماهير في الملاعب، وأصبح استبدال الشرطة بالشركات الخاصة وشركات الأمن أو حتى إنشاء وحدات أمنية متخصصة في تأمين الملاعب والمباريات هو أمرٌ لا بد منه، وليست رفاهية، خصوصاً في الدول الاستبدادية.
ثقافة الشرطة في التعامل مع الجماهير
المشكلة ليست في الغاز أو في الأدوات فقط، ولكن ما تعاني منه الجماهير هو عقلية الشرطة نفسها في التعامل أثناء حدوث مشكلة ما داخل الملعب.
ففي نيبال عام 1988 تسببت عاصفة ثلجية مفاجئة في تدافع الجماهير للاحتماء بالجزء المغطى من الملعب الذي له سقف، ولكن دفعتهم قوات الأمن إلى الوراء، لذلك حاولت الجماهير الخروج من الأبواب المغلقة للملعب.
وأسفر التدافع الذي أعقب ذلك عن سقوط ما يزيد عن 80 قتيلاً.
رأينا ذلك أيضاً في حادثة استاد بورسعيد في مصر، وهو ما ظهر فيه تواطؤ الشرطة بشكلٍ واضح في محاولة الانتقام من أولتراس أهلاوي، المناهض للنظام العسكري وللرئيس السابق حسني مبارك.
وسمحوا لعددٍ كبير من الموجودين لمساندة فريق المصري البورسعيدي باقتحام الملعب فور انتهاء المباراة، وكان بحوزتهم أسلحة بيضاء وألعاب نارية قاموا باستخدامها ضد جماهير النادي الأهلي، دون أي حماية أو تدخل لمنع ذلك من قوات الشرطة، التي كانت موجدة بالفعل داخل الملعب.
حتى إن البوابات المخصصة للخروج قد تم لحمها لمنع خروج أي أحد من مدرج النادي الأهلي، وهو ما حصر المشجعين داخل المدرج، وتسبب في مقتل 72 مشجعاً، منهم من قُتل بأسلحة بيضاء، وآخرون من التدافع، وبعدها صرّح مدير استاد بورسعيد في ذلك الوقت بأن الأمن هو من طلب منه لحام الأبواب.
في ليبيا أيضاً قامت الشرطة بقتل ثمانية أشخاص وإصابة 39 شخصاً بعد استخدامهم للأعيرة النارية في التفرقة بين المعارضين والمؤيدين لمعمر القذافي، أثناء مباراة للأهلي والاتحاد عام 1996.
ومجدداً في إفريقيا، وفي الكونغو الديمقراطية، تدخلت قوات الشرطة في مباراة لمازيمبي وفيتا كلوب، واستخدمت الغاز والأعيرة النارية؛ ما تسبب في سقوط 15 قتيلاً.
تلك الحوادث المتكررة تسببت في إبعاد الشرطة عن التواجد داخل الملاعب، بل وتجريم تواجد أي فرد من أفراد الأمن بسلاحه داخل المستطيل الأخضر، واستبدال ذلك بأفراد مدربين على التعامل مع الشغب الجماهيري دون التسبب في خسائر مضاعفة، بالطبع حدث ذلك في الدول التي تحترم وتقدر دماء مواطنيها، وتخشى أن يتسبب حدثٌ ترفيهي فيما رأيناه من صور لأطفال وشباب وشيّب يرتمون في الشوارع قتلى وجرحى؛ لأنهم حاولوا مشاهدة مباراة لكرة القدم.
فأصبحنا لا ندري القاتل فيما قَتل ولا المقتول فيما قُتِل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.