يقول ابن خلدون: "إذا عمّ الفساد في الدولة فإنّ أولى مراحل الإصلاح في الدولة هي الفوضى"، فهل يا ترى ما تشهده إيران من فوضى على صعيد السياسة والاجتماع والثقافة والاقتصاد هي مرحلة من مراحل الإصلاح، أم أن للفوضى أيضاً قوانين قد تكون غائبة عن الفوضى الحالية في إيران، ما يسلب منها صفة الإصلاح؟
وفي حالات الاضطراب والفوضى السياسية تسوء أخلاق الشعوب وتضطرب تبعاً لاضطراب الواقع السياسي الحاكم، لاسيما إذا طال هذا الحكم وهيمن على المجتمع وأفراده. وكثيراً ما ينعكس هذا الاضطراب على الأفكار والمعتقدات المتصلة بالسلوك والعلاقات، فتصبح الأفكار محكومة بمنطق منحرف ونظر سقيم يقود إلى انحرافات سلوكية وأخلاقية، بعد أن حكّم مقدمات خاطئة ومنحرفة.
ومن الانحرافات الفكرية الخطيرة على الإنسان ربطه للمفاهيم والقيم والأفكار بالأفراد والدول والجماعات، فتقوى عنده بقوتهم وتضعف بضعفهم وتموت بموتهم. هذه الظاهرة يسهل التدليل عليها في المجتمع الإيراني؛ إذ أصبح أغلب الإيرانيين يتعاملون مع هذه القيم والمفاهيم من هذا المنطق المنحرف.
ونظراً لما تعاني منه إيران على صعيد الأفراد والمؤسسات والدولة من ضعف وهزال وهرم خلدوني أصبحت المفاهيم والقيم والأخلاق تواجه فيها تحدياً كبيراً وتزعزعاً عظيماً.
المجتمع الإيراني المتزعزع في قيمه والمشوّش في أفكاره ومفاهيمه بات يُخضع كلَّ فكرة لمقياس الأفراد، فموقع فكرة الإنسان تصبح تابعة في التقييم لموقعه وواقعه، لذا لم يعد للقيم والأخلاق الحسنة والصفات الحميدة وحتى ما ينمّيها كالعبادات والروحانيات تلك المكانة المحترمة؛ إذ باتت هذه الأمور تابعة لمكانة الداعين إليها بألسنتهم، الناهين عنها بأفعالهم وسلوكهم.
ظاهرة خلع الحجاب في إيران
وكنموذج ملموس في هذه الأيام نجد ظاهرة الحجاب- وهي قيمة إنسانية نبيلة- تواجه تحدياً قاسياً أمام موجات المشككين بقيمتها الاجتماعية ومنفعتها الإنسانية، أصبح كثير من الإيرانيين يعتبرون الحجاب والستر قيمة "متخلفة" وليست ذات شأن، وسبب ذلك بتقديري، أو بالأحرى أحد الأسباب الرئيسية هو الربط الخاطئ والمنحرف بين الحاكم السياسي "المتخلف" وبين ما يدعو إليه من قيم وأفكار نبيلة بذاتها، سليمة في أصلها، فبما أن تخلف الحاكم السياسي وانحطاطه ثابت ومقرّر، تصبح النتيجة المنطقية- وفق هذا المنطق المنحرف- هي انعدام الفائدة الاجتماعية والأخلاقية للقيم والأفكار الداعي لها ذلك السياسي المتخلف. والناظر من داخل إيران يدرك أن الأمر أخطر من الحجاب وأوسع حدوداً؛ إذ باتت فرائض أكبر كالصلاة والصيام والزكاة والحج أموراً ليست ذات قيمة، ولا تحظى بتطبيق عملي في حياة معظم الإيرانيين، بعد أن ربطوها بمكانة الحاكم السياسي الديني.
وبإقرار دراسات إيرانية تابعة للنظام نفسه كانت هذه القيم والأفكار أكثر احتراماً وتطبيقاً بين الإيرانيين في عهد نظام الشاه العلماني، كانت المساجد أكثر ازدحاماً، والحجاب أرسخ وجوداً، والدين أكثر تطبيقاً واحتراماً.
وبطبيعة الحال هناك تطورات عالمية قد انعكست آثارها على المجتمع الإيراني وغيره من المجتمعات في دول العالم الثالث، وأثرت على المواقف من هذه القيم والمفاهيم الإسلامية والدينية، لكن الثابت والمؤكد هو أن السبب الرئيسي في عزوف الإيرانيين عن هذه القيم الدينية هو طريقة النظام الحاكم الخاطئة؛ إذ حاول تسييس كل قيمة أخلاقية ودينية، واختزالها في أيديولوجية النظام السياسي، ما يعني أنها تنتمي له ولأنصاره، وأن خصومه ومعارضيه لا حصة لهم بهذه القيم التي يدعي أنه ثار من أجلها ويسعى لنشرها على نطاق أوسع.
ويبدو أن معارضي النظام السياسيين والاجتماعيين، أو نسبة كبيرة منهم على الأقل، قد تقبّلوا هذا الاستحواذ من قبل النظام السياسي الإيراني على هذه القيم والأفكار، وأصبحوا يشعرون فعلاً بأنها من حصة السلطة الحاكمة، ولا تمثلهم ولا يمكن لهم أن يكونوا معارضين وفي الوقت نفسه يتفقون مع النظام على الإيمان بقيم مشتركة ومبادئ واحدة.
هكذا أصبح البلد منقسماً إلى تيارين؛ الأول قوي بالسلطان والثاني قوي بالجمهور، فالخطاب السائد رسمياً في إيران هو خطاب ديني أيديولوجي منمق، وإذا جلست يوماً على وسائل الإعلام الحكومية تسمع ما لن تراه في الشارع، تسمع عن قيم وأفكار ليست حاضرة في واقع الحياة العامة. معارضو النظام فكرياً وسياسياً يشكلون ما نسبته 80% أو يزيد، لكن هذه النسبة الكبيرة لا تسمع لها حسيساً في الإعلام، وكأنها غير موجودة أصلاً، لكنها جلية لمن سار في شوارع المدن الكبرى في إيران أو التقى بإيراني خارج جغرافيا إيران.
هذا الانقسام المجتمعي قد أنهك البلاد واستنزف طاقاتها المستنزفة أصلاً بفعل الفساد والاستحواذ المؤسساتي على خيرات البلد، والأَمَرُّ من كل ذلك هو إنكار السلطة وتجاهلها تماماً لهذا الواقع الموجود، فهي لم تعترف يوماً بوجود معارضين لشكل وطبيعة النظام داخل إيران، وتختار دائما أساليب القمع لإسكات الأصوات المنتقدة لطريقة الحكم بدل الجلوس معها ومحاورتها والاستماع إليها.
الخلاصة
إن إنكار الإنسان لواقعه وسيره إلى الأمام دون الالتفات إلى مَن حوله وما حوله مِن ضجيج وصراخ، يُعلي صوت الصارخين، ويُكثر من التعاطف معهم، كما يجعل المنكِر جاهلاً بطبيعة هذا الصراخ وفحواه، وما يريد صاحبُه تحقيقه إن التفت إليه واعترف بوجوده، منكرو واقع الانقسام في إيران ممثَّلين بأصحاب السلطة الحقيقية بعيدون عن مطالب الناس، الذين أصبحوا متأثرين سلباً بانعكاس صراخهم عليهم طوال أربعة عقود. باتت الضحية تعاني من خلل في القدرة التحليلية والفهم النظري وتبعاً له التطبيقي، بات الكثير من الإيرانيين المعارضين للحكم يكتفون بالشكل دون المعنى، يرغبون في الظاهر ويتركون ما سواه، والسبب في ذلك هو أنهم لم يجدوا وقتاً للغوص في الأعماق، والبحث عن الكامن من الأمور والبعيد من الغايات، وشَغَلهم الصراخ من أجل القريب من الحاجات عن التفكير بما هو أولى وأهم.
هذا الواقع السيئ خلق معادلة سيئة للغاية في إيران؛ إذ إن كلاً من طرفي الصراع، الأغلبية غير المعترف بها والأقلية المتجاهلة للواقع، أصبحا يسلكان خيار التطرف في مواجهة الخصم، النظام يستمر في تجاهل مطالب الشارع، المعتدلة منها والمتطرفة، والشارع يصر على محاربة ما يعتقد أنها باتت تمثل النظام كالعبادات الدينية والممارسات السلوكية المتفرعة عن العبادات كالحجاب، هذا التضاد المجتمعي جعل البلاد موشكة على انفجار كبير، جعل المجتمع يقترب من الهاوية بانحرافه الفكري، والنظام يقترب من السقوط بتآكله واضمحلال رؤيته السياسية والعملية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.