صعّدت إسرائيل بشكل متعمد ضد الشعب الفلسطيني في القدس والضفة الغربية بشكل عام، خلال الأسبوع الممتد من ذكرى رأس السنة العبرية، التي صادفت الذكرى السنوية الـ22 لانتفاضة الأقصى الثانية في 28 سبتمبر/أيلول 2000، إلى عيد الغفران الذي يصادف الذكرى الـ49 لحرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973 المجيدة.
إسرائيل حوّلت المسجد الأقصى والحرم الشريف والمدينة المقدسة بشكل عام إلى ثكنة عسكرية مع نشر آلاف العناصر من الشرطة والأجهزة الأمنية والمتطوعين، بحجة تأمين الاحتفالات اليهودية واقتحامات المستوطنين للمسجد والحرم، ثم نشرت عشرات الكتائب الإضافية، وواصلت عملياتها واقتحاماتها واغتيالاتها في الضفة الغربية تحديداً في شمالها "مدينتي" جنين ونابلس، ووصل الأمر حتى إلى فرض حصار على هذه الأخيرة، وسط بروباغندا إعلامية وترويج لرواية كاذبة تحمّل الفلسطينيين المسؤولية عن التوتر والتصعيد الجاري، رغم أنهم في حالة مشروعة للدفاع عن النفس بمواجهة الدولة العبرية، بينما بدت هذه الأخيرة وكأنها تطالبهم بالخضوع والاستسلام أمام ممارساتها غير الشرعية بما فيها الاحتلال بحد ذاته، ناهيك عن تجلياته الإجرامية من تهويد واستيطان وتوغلات واغتيالات واعتقالات، وما إلى ذلك.
بتفصيل أكثر نشرت إسرائيل آلافاً من عناصر شرطتها وأجهزتها الأمنية في مدينة القدس المحتلة، وأغلقت وحاصرت أحياء الشيخ جرّاح وباب العامود، واعتقلت مئات الفلسطينيين، ومنعت المرابطين وحتى المواطنين المقدسيين من الدخول والصلاة في المسجد الأقصى والحرم الشريف، بحجة إتاحة الفرصة أمام المستوطنين للاحتفال بالمناسبات اليهودية رأس السنة وعيد الغفران.
المشهد بدا متناقضاً وفاضحاً لإسرائيل، كون ما شاهدناه لا تفعله أي دولة طبيعية في عاصمتها المزعومة. كما أكد من جهة أخرى أن المدينة محتلة مع مظاهر موصوفة لقوة غاشمة في مواجهة الشعب الرافض للخضوع أو الاستسلام أمام الاحتلال وجبروته.
والمشهد بدا كذلك عنيفاً وقهرياً وغير شرعي بالتأكيد، كما الاحتلال نفسه، بينما المقاومة الفلسطينية بكافة مظاهرها وتجلياتها بدت أيضاً طبيعية ومشروعة وبالوسائل والإمكانيات المتاحة، بما فيها وربما أساسها فعل الصمود والثبات أمام الغطرسة والقوة الإسرائيلية.
هنا لا بد من التذكير بحقيقة أن اقتحامات المستوطنين للحرم القدسي مستحدثة ومبتدعة، وبدأت فقط منذ عام 2003، وتتجاهل الواقع الراهن في الحرم حيث السيطرة والوصاية الأردنية، من خلال وزارة الأوقاف بعمان وموظفي الحرم الفلسطينيين المخولين بتنظيم دخول وزيارة السواح والأجانب غير المسلمين للحرم بمواكبتهم وتحت إشرافهم.
مع الانتباه أيضاً إلى أن اقتحامات الأقصى والحرم كانت مرفوضة من قبل السلطات، بل المنظومة الإسرائيلية بكاملها السياسية والأمنية وحتى الدينية، منذ احتلال المدينة في يونيو/حزيران 1967، بينما باتت تعبر الآن عن حقيقة تموضع المستوطنين المتطرّفين في متن المنظومة السياسية والدينية وحتى الأمنية، بعدما كانوا هامشيين ومنبوذين لعقود، وهذا نذير شؤم للدولة العبرية، كما تقول كتابات ومقاربات وازنة ترى أنهم يأخذون الدولة كلها للانهيار والزوال؛ كونهم ببساطة -ضمن معطيات أخرى- فضحوا كل ما سعت الدولة لإخفائه عن العالم خلال العقود السبعة الماضية التي تلت تأسيسها، لجهة تصوير نفسها كضحية مستضعفة ومظلومة ومتحضرة مقابل الفلسطينيين والعرب.
وأكثر من ذلك فقد بات هؤلاء عبئاً اقتصادياً على الدولة، حيث لا ينخرط معظمهم في سوق العمل، وعبئاً أمنياً أيضاً مع استنزاف قدرات جيش الاحتلال وتحويله إلى غفر وقوة شرطة لحراسة المستوطنين المتطرفين في القدس والضفة الغربية بشكل عام وحتى في محيط غزة أيضاً.
في السياق، لا بأس من التذكير والاستعانة بما قاله رئيس الوزراء الحالي يئير لابيد -يوصف أنه من يمين الوسط- ردّاً على رسائل ووساطات فلسطينية وعربية وأممية لتخفيف التوتر ووقف التصعيد بالقدس والضفة الغربية، حيث ادعى أنه لا يستطيع فعل ذلك قبل فترة الانتخابات الحاسمة -أوائل شهر نوفمبر/تشرين الثاني القادم- في إشارة إلى عدم رغبته أو قدرته، أو الاثنين معاً، على كبح جماح ووقف اقتحامات المستوطنين، ولا التوغلات والاغتيالات والاعتقالات لجيش الاحتلال في الضفة الغربية، بما في ذلك التفكير جدياً في عملية عسكرية واسعة تمتد أياماً وحتى أسابيع وربما لشهور، في جنين ونابلس، على غرار عدوان السور الواقي أوائل عام 2002.
إلى ذلك تمثل العمليات الإسرائيلية الدموية والمستمرة في شمال الضفة وجنين ونابلس بشكل خاص ابتزازاً للسلطة الفلسطينية لإجبارها على التدخل والالتزام بالتنسيق الأمني، وقيامها هي نفسها بالعمل نيابة عن الاحتلال، أو تجاهلها والتصرف بمعزل عنها، ما يفاقم من تآكل هيبتها وحضورها، وببساطة يضعها الاحتلال عملياً بين الرمضاء والنار في غياب تحرك جدي منها، وتبني خيارات مختلفة جذرياً تعتمد أساساً على الشراكة والتوافق وبلورة استراتيجية وطنية جدية لمواجهة الاحتلال، بعيداً عن التنسيق والتبعية.
أما فيما يخص المناسبات التي تتبجح إسرائيل بإحيائها في انفصام وإنكار للوقائع، كونها تتجاهل ذكرياتها المقابلة، بل المناقضة لدى الشعوب العربية، حيث الذكرى 22 للانتفاضة الثانية للأقصى 2000 التي جاءت رداً على اقتحام وتدنيس رئيس الوزراء السابق أرييل شارون للحرم القدسي الشريف. وكانت بمثابة انفجار شعبي تلقائي وعفوي في مواجهة اتفاق أوسلو، وسعي إسرائيل لأكل الكعكة وبيعها للعالم، وفي الوقت نفسه استغلال الاتفاق لتوسيع وتعميق الاستيطان، وفرض الحكم الذاتي البلدي كحل نهائي على الفلسطينيين، وتحجيم مشروع السلطة نفسها وتحويلها إلى نموذج جديد من سلطة أنطوان لحد سيئة الصيت في لبنان.
أما الذكرى الثانية المتمثلة بحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 فتمثل جرحاً غائراً وعميقاً -على عكس ما يتصور كثيرون- في ذاكرة ومضمون المشروع الصهيوني الاستعماري لجهة قدرة العرب على إلحاق الهزيمة بالدولة العبرية وزوالها بشكل تام.
هنا، وفيما يخص حرب أكتوبر، لا بد من التذكير أيضاً أن الجيل الأول من القادة العلمانيين المؤسسين اعتبروا أن إعادة بناء الهيكل الثالث قد حصلت عبر تأسيس الكيان نفسه بالمعنى السياسي والاستراتيجي لا التوراتي الديني الذي تم استغلاله فقط لجلب اليهود، وتشجيعهم على الهجرة إلى فلسطين. ولذلك خشي وزير الدفاع آنذاك الجنرال موشيه دايان عند انطلاق الحرب من انهيار الهيكل، كما قال حرفياً لرئيسة الوزراء غولدا مئير، طارحاً حتى فكرة استخدام السلاح النووي، بينما المستوطنون المتطرفون الذين هيمنوا الآن على القرار والسلطة الفعلية يعتقدون أن الدولة باتت أمراً مفروغاً منه، ومن هنا سعيهم الانتحاري لبناء الهيكل المزعوم بالمعنى المادي مكان المسجد الأقصى في الحرم القدسي الشريف ضمن تهويد شامل له ولمحيطه.
بالعموم، بدا امتزاج ذكرى الانتفاضة الثانية وحرب أكتوبر لافتاً جداً لجهة الدلالات والاستنتاجات المتداخلة أيضاً، حيث عدم استسلام الفلسطينيين مع جيل شاب جديد يفاجئ إسرائيل ويقود المقاومة ضدها خارج الاصطفافات والانقسامات الحزبية، ولكن مع استناد وثيق إلى مبدأ ومفهوم المقاومة نفسه بمعناه الوطني الشامل والراسخ، كما قدرة العرب على الانتصار بشكل مؤسساتي ومنهجي واستراتيجي كدول وتحالفات وتكتلات، كما تبدّى من خلال حرب أكتوبر مع الانتباه إلى أن المقاومة الفلسطينية "الشعبية" على أهميتها غير قادرة وحدها على هزيمة أو تفكيك المشروع الصهيوني الاستعماري ككل، وإنما استنزافه وإضعافه لفرض الهزيمة الكاملة عليه فيما بعد، مع جهوزية الحواضر العربية والإسلامية الكبرى للقيام بمهمتها كما فعلت دائماً عبر التاريخ، مقابل الغزوات الأجنبية من التتار إلى الصليبيين، والصهاينة ليسوا استثناءً بكل تأكيد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.