منذ نشأة كرة القدم وعلاقتها بالحروب والأجواء العسكرية لها طابع خاص، ليس فقط من خلال الأحداث الجسام كـ"حرب كرة القدم" التي وقعت بين السلفادور والهندوراس في أواخر الستينيات من القرن الماضي، بل وفي اللغة والمصطلحات الكروية الشائعة حالياً.
الهجوم، الدفاع، الارتداد السريع، الهجمة المرتدة، وغيرها، كلها مصطلحات تُستخدم في السياق الكروي الحديث بشكل طبيعي. فقبل الحرب العالمية، لم يكن يصف المعلقون التسديدات بأنها صواريخ أو قذائف.
ولم تكن تلك المصطلحات موجودة في النسخة الإنجليزية الأرستقراطية من الرياضة، بل انتقلت إلى كرة القدم مع قدامى المحاربين المصابين بصدمات نفسية. أولئك الجنود العائدون من الخنادق إلى ملاعب ومدرجات كرة القدم، أضفوا عليها طابعاً عسكرياً، ولكن يبقى السؤال: هل هناك تشابه بين تكتيكات الحرب وتكتيكات كرة القدم؟
دعونا نناقش ذلك.
الاستطلاع و الـScanning
الاستطلاع هو عين الجيش، يتمركز في أرض العدو، يستطلع تمركزاته ومواطن القوة والضعف، ويأتي بإحداثيات كل شيء، بناءً على رؤيته تتحرك باقي الأسلحة، وتحدد أين ومتى تطلق نيرانها، بدون الاستطلاع لا يستطيع الجيش اتخاذ أي قرارات، أو اعتماد أي خطة.
كذلك الـ"scanning" أو "المسح البصري" في كرة القدم، هو عصب اللعبة، تحليل الوضعية بدونه لن تستطيع اتخاذ أفضل قرار. يحدثنا هنا تشافي هيرنانديز عن أهمية ذلك ويقول: "في كل مرة لا أقوم فيها بعمل مسح للملعب، أعيد الكرة مرة أخرى لزميلي الذي استقبلتها منه"، طبقاً لدراسات عديدة، فتشافي هيرنانديز أفضل لاعبي اللعبة على الإطلاق في عمليات المسح المرئي للملعب، لن تجد قائد استطلاع أقوى منه على دكة المدربين.
المدفعية والعرضيات وصناعة الفوضى
تأتي المدفعية بعد الاستطلاع، بناءً على إحداثيات الخصم تطلق قذائفها لتدمير ما يمكن تدميره، وتسهل مهمة الاختراق البري للمشاة والمدرعات، والأهم من ذلك هو صناعة الفوضى في تنظيم الخصم، تجعله مشوّشاً لا يستطيع الخروج من الخنادق حتى يُصدم بوجود المشاة والمدرعات فوق رأسه، كعرضيات زيدان بعد عمل حزمة من اللاعبين حول كتلة الخصم الدفاعية، ثم إرسال عرضيات من اليسار واليمين من أجل صناعة الفوضى بأقصى درجة ممكنة. ففي نفس الوقت الذي يسعى فيه مدربو كرة القدم لصناعة النظام من أجل تقليل نسبة العشوائية والارتجالية في اللعبة، كان زيدان يسعى في الاتجاه المعاكس تماماً في صناعة الفوضى؛ لأن نسبة فوزه بالمباراة كانت تقل بزيادة النظام فيها، فربما يكون صانع العشوائية الأول، قائد المدفعية الأهم على دكة المدربين.
المشاة والانتشار
يوهان كرويف يخبرنا أنه أثناء الهجوم نقوم بتوسيع الملعب، وأثناء الدفاع نقوم بتضييقه، لكن في الحرب لا نستعمل إلا النصف الأول من الكلام، سواء في الهجوم أو الدفاع. الانتشار الجيد في الملعب يضمن لك تكوين مبادئ اللعب التمركزي جميعها تقريباً، ويجعلك تحاصر الخصم من جميع الجهات وتصنع التفوق عليه عددياً ثم مركزياً، كذلك انتشار المشاة في الحرب، يأتي طبقاً للاستطلاع أيضاً.
تشافي هيرنانديز مهم جداً هنا، يوجه مجموعات المشاة بحيث تنتشر بالشكل الذي يجعلهم يحاصرون الخصم بأقصى درجة ممكنة، ليُطّهروا ما تبقى من آثار المدفعية، فهو أهم أسلحة الحرب؛ لأنه سلاح المواجهات الفردية والصراعات حول الكرة. هناك حالات "1 ضد 1″ و"2 ضد 2" كثيراً. تدريب الفرد مهم جداً فردياً، فنحن هنا بحاجة لتدريبات مارسيلو بيلسا القاسية في التكتيكات الفردية للاعبين، بالكرة وبدونها، فالمشاة هم أساس الانضباط، ومارسيلو بيلسا هو أقوى قائد مشاة في كرة القدم.
المدرعات وهيكل الهيمنة
المدرعات هو سلاح الهيمنة، في عُرف العسكرية. تقاس قوة الجيوش بقوة سلاح المدرعات، فهو أقوى قوة ضاربة في الجيش، وسلاح كسب الأرض، بمعنى كلما تتحرك الدبابة تجاه الخصم أصبح ما خلفها أرضاً مكتبسة؛ حيث إن هيكل الدبابات لا يتحرك على شكل عرضي واحد بل في شكل مثلثات مصغرة؛ بحيث يصبح هيكل اللواء المدرع قوياً ومتماسكاً ويستطيع كسب الأرض بقوة حتى لو تلف بعض من مدرعاته. نفس مفهوم هيكل اللعب التموضعي، فبيب جوارديولا بارع هنا في صناعة هياكل مركزية تمكّنه من إحكام قبضته على المساحات في نصف ملعب الخصم، وإجباره على التراجع، بل وتمكنه من اختراقه بأي شكل من الأشكال، سواء من الممرات الداخلية، أو الأطراف. مفهوم الهيكل هو مفهوم الهيمنة والسيطرة في الميدان، كذلك المدرعات إذا تمكنت من الانتشار الجيد بهيكلها الطبيعي، فقد تمت الخطة بنجاح، وبشكل كبير تستطيع أن تحتفل بالنصر، فلا مدرعات أقوى من مدرعات بيب جوارديولا في كرة القدم.
المشاة والضغط العكسي
عناصر المشاة الميكانيكية هي عناصر مشاة سريعة التدخل، متحركة على عجل أو جنزير، يمكنك اعتبارها قوات دعم سريعة وقت تدهور قوات المشاة العادية، أو قوات تدخل سريع وقت الأزمات، عندما تخسر الكرة لابد من الضغط العكسي السريع المُحكم كي تستعيدها مرة أخرى وتستعيد الهيمنة، فالضغط العكسي هو أسرع وسيلة دفاعية، ويساعدك في استكمال الهجوم مرة أخرى، يورجن كلوب هنا يذاكر جيداً، ويمكنه إنقاذك في الحرب دائماً.
استطلاع يوجه المدفعية، ثم استطلاع يوجه المشاة تحت ستارة قذائف المدفعية، ثم مدرعات لفرض الهيمنة وكسب الأرض، ومشاة ميكانيكية لاستعادة الكرة مرة أخرى، تسلل منطقي للحرب البرية، مع سلاح الإشارة للربط بين الخطوط.
ذلك حوار تخيلي عزيزي القارئ، محاولة لربط التكتيكات العسكرية بتكتيكات كرة القدم بشكل سطحي نوعاً ما، لكن على كل حال، من يرد التعمق في اللعبة في تكتيكات اللعبة عليه أن يقرأ في استراتيجيات الحروب، ومن يرد أن يصبح قائداً عسكرياً ماكراً، عليه أن يقرأ جيداً عقل بيب جوارديولا في صناعة اللعب التمركزي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.