تعرّفت على الدكتور يوسف أولاً من خلال كتبه، حيث لم تكن أول نشأتي البرامج التلفزيونية متوفرة، فكنا نعرف المؤلفين والكتاب من خلال برامجهم ولقاءاتهم، ومن أول ما اطلعت عليه كتابه "الحلال والحرام"، وأعجبني جداً وأنا فتاة صغيرة، واستغربت كيف استطاع بمنهجية بسيطة، وكتاب صغير جَمْعَ كل شيء وتوضيح كل شيء، وحصر الحرام بمجموعة نقاط واضحة، يفهمها العامي والناشئ الفتيّ.
ثم أطلّ علينا بكتابه العظيم "الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف"، فأوقف خلافات، وحلّ به معضلات، وكان مرجعاً للشباب، وحجة قوية في وجه التنطع والتشدد.
وقرأت بعدها مجموعة من كتبه، وأعجبتني فيها تلك المنهجية العلمية، حيث تبدأ كتبه بتعريف المصطلحات، ثم ينطلق بطريقة متسلسلة فلا أضيع معه، ولا أحتار، بل يأخذني خطوة وراء خطوة، حتى نصل أخيراً للفكرة الأساسية، وللمعنى المراد، ولذلك كتبت عنه مقالاً من ثلاثة أجزاء في مجلة "المجتمع" الكويتية، حين تعرض لواحدة من الهجمات الشرسة ضد فتاواه، وكنت وقتها أبين فيها تضامني معه فيما ذهب إليه، وكنت ضد من نالوا منه، وانتقدوه بشدة، وضد من أساء الأدب، وضد من أسقطه واعتبره مأجوراً.
ثم نشطت الفضائيات، وتعرفت عليه بالصورة المتحركة في برنامجه الشريعة والحياة، ولكني لا أخفي أني تفاجأت كثيراً من كلامه بالعامية المصرية العميقة، فوجدت كتبه أحب إلي من السماع، وأقرب لذوقي وفهمي.
ولقد زار الشيخ جدي مرات ومرات، وتمنيتُ لو كنت في تلك اللقاءات، لأنه كانت في جعبتي أسئلة كثيرة، ولكم وددت لو ساعدني في إيجاد حل لمعضلات كثيرة، وتناقضات كنت أشعر بها وأراها بالإفتاءات، خاصة فيما يخص النساء.
وكان القرضاوي هو من أطلق على جدي صفة "أديب الفقهاء وفقيه الأدباء"، حين رثاه، فصارت مثلاً.
وحينما حللت بقطر كان أول أهدافي زيارته، وتفضلت عليّ أخت كريمة وزوجها، وحملتني إلى مكتبه 2015، وسألته عدة أسئلة (بمقدار ما سمح به الوقت)، وفوجئت كثيراً بما أجابني به، وشعرت كم هناك من الفتاوى المخبأة عن النساء، حيث يُحرّمون عليهن ويُضيّقُون، والأمور فيها سماحة وخلاف ومتسع، ولكن جمهور الفقهاء المعاصرين يقولون بالحرمة، ومن ذلك مثلاً أن "كشف المرأة فخذها أمام النساء مكروه"، وهذا يعني أنها لن تُلقى في نار جهنم لو فعلته (كما يوحون ويفتون لها)!
وهذا مما تفرّد به الشيخ، ولم أسمعه من غيره من قبل، ولم يتفرد القرضاوي بهذه الفتوى فقط، بل كانت له فتاوى جريئة، ومواقف ذكَّرتني بجدي علي الطنطاوي، فكلاهما لا يأخذ الفتاوى كما هي، بل نراهما يديرونها على الأدلة ولو صدرت من كبار الفقهاء ومن المذاهب الأربعة، ويسقطونها على الواقع وعلى حاجات الناس فتتغير كثيراً، ويعرضونها بجرأة، ولا يخافون اللوم حين يوقنون أنهم على الحق.
فما أوجه الشبه القوية بينهما؟
1- كلاهما كان مدرسة، وكان له منهج خاص لم يُسبق إليه، ولعل السبب في هذا اهتمامهما بالقراءة الجادة، وإنفاق أكثر الوقت عليها، وتنوع ثقافتهما، فلم يقتصرا على العلوم الشرعية، وإنما كانا موسوعيّين، فشاركا في الحديث عن العالم الإسلامي وهموم الأمة، وفي بعض الأمور الأخرى.
2- كلاهما شد الشباب وجذبه وحببه بالدين، وكلاهما أسهم بالتأثير على العقل، وإصلاح السلوك، ويرجع ذلك لفهم الجيل الناشئ ومواكبة المتغيرات، والاعتدال في الفتوى. والبساطة في الطرح، والتنوع، فكلاهما يحبان الشعر والأدب واللغة.
3- الأسلوب السهل بالعرض، فيتكلمان بلا تكلّف فيه ولا تعقيد، وبأسلوب قريب لكل نفس، فتفهمه مهما كانت ثقافتها الدينية قليلة.
4- التركيز على الثوابت، والوقوف عند الحلال والحرام مع مواكبة العصر، أي الجمع بين الأصالة والمعاصرة، مع الاهتمام بفقه النّوازل والمستجدات. واستخراج فتاوى مناسبة للزمن، فأصبحا مرجعاً رئيسياً بهذا المجال.
5- المرونة في التّعامل مع القضايا الواقعية، والابتعاد عن الخطابية والمثالية، وترسيخ فقه التيسير.
6- التركيز على "فقه الموازنات" و"فقه الأولويات" و"فقه المآلات". وهي الثلاثية العظيمة التي قلّ من يجيدها من المفتين المعاصرين.
7- الجرأة بالرجوع على ما اتفق عليه الفقهاء القدامى، ولذلك تعرض كلاهما للنقد، وأما جدي فتراجع قليلاً في نهاية حياته، وأصبح يسدد ويقارب، وكانت أكثر تأثراً بالبيئة بسبب سكنه في السعودية وقلة أسفاره، وكان يصف نفسه بأنه منقطع عن الناس ويعيش وحده؛ ما جعله يميل للتحفظ… في حين حافظ القرضاوي على جرأته الجميلة، وعلى تجديده، بسبب استمرار تفاعله مع المجتمع، وقربه من الشباب.
ومن جرأة القرضاوي مراجعته لقضية "تنصيف دية المرأة"، والتي نقل المغني أنها من المسائل المجمع عليها، ولكن القرضاوي جمع بعض فقهاء العصر وراجع القضية وفند الأدلة، وتوصول لأن هذه الفتوى ليس عليها دليل صحيح، وبالتالي "دية المرأة تساوي دية الرجل"، ولكن ورغم أن القرضاوي يملك كل أدوات الاجتهاد، كان هناك من نقده ولم يتقبل منه، وما زالوا إلى اليوم يُفتون بأن دية المرأة نصف دية الرجل، فيضيعون جهوداً علمية، ويتحيزون بلا وجه حق، ويوغرون صدور النساء بلا داع ولا دليل شرعي؛ ما يدل على أن كثيرين ممن يتصدون للفتوى اليوم، ويدعون العلم والفقه غير منصفين ولا محايدين، وهدفهم فقط المحافظة على القديم وعلى ما ألفوه، وليس البحث عن الحقيقة والصواب؛ ولذلك أصبح كثيرون يتفلّتون من الدين، أو يستخفون بالشيوخ، وللأسف.
8- كلاهما كان ثائراً على الظلم والطغيان والاستبداد، فناصرا المظلومين قدر استطاعتهما.
هذا ما اتفقا فيه، فكنت أشعر بالقرب من الشيخ القرضاوي لأنه يذكرني بجدي بأمور متعددة، على أن القرضاوي فاق جدي بأنه لم يكتفِ بالبرامج، وإنما دوّن مؤلفاته بيده، وقيّد أفكاره بكتبه، فلا تضيع ولا تُزوّر، في حين ترك جدي ذلك وأهمل جمع مقالاته، فضاع كثير من أفكاره، وصار بعضهم يتأول عليه، وينسب إليه ما لم يقُله.
وفاق القرضاوي جدي بمشاركاته العامة، وتأسيسه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والمجلس الأوروبيّ للإفتاء والبحوث، وكليّة الشريعة في جامعة قطر. في حين اكتفى جدي ببرنامجيه وبالعمل الفردي، وسبحان الله، كيف ييسر الله لكل شخصية ما يناسبها.
ولا شك أن رحيلهما خسارة كبيرة، ونسأل الله أن يجعل لنا فيمن بقي البركة، ويسدد خطاهم ليكونوا على وعي من ذهبوا وعلى بعد نظرهم، فلا يحملون الشباب فوق طاقتهم، ولا يحرجونهم فيخرجونهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.