في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول من سنة 1988، قبل 34 عاماً خرج الشباب الجزائري في احتجاجات عارمة، انطلقت من الجزائر العاصمة، وامتدت إلى أغلب ولايات الوطن، إبان حكم الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، للمطالبة بإصلاحات سياسية، اقتصادية واجتماعية، خلَّفت مئات الضحايا بين قتلى وجرحى ومفقودين ومعتقلين، وخسائر مادية معتبرة في الممتلكات، لكنها أثمرت إقرار دستور جديد سنة 1989، وفتحت باب التعددية الحزبية والإعلامية من خلال السماح بتأسيس صحف ومجلات مستقلة، وتنظيم أول انتخابات تعددية، في ديسمبر/كانون الأول 1991، تم توقيفها بعد ذلك لتدخل الجزائر دوامة العنف لعقد من الزمن، مخلفة عشرات الآلاف من الضحايا، ومليارات الدولارات من الخسائر، وجراحاً عميقة بقيت بعض آثارها إلى اليوم، مثلما كان عليه الحال في بلدان الربيع العربي الذي أطاح ببعض الحكام، لكن الأنظمة بقيت قائمة إلى اليوم، دون أن تتغير أشياء كثيرة.
لست هنا لإعادة قراءة وتوصيف ما حدث على أنه انتفاضة أو ثورة، ولا حتى للمقارنة بين خريف الغضب الجزائري والربيع العربي لاختلاف الزمان والسياق، وحتى الأسباب والنتائج، لكن في كلتا الحالتين يمكن الحديث عن انتفاضة شعوب بلغت درجة كبيرة من الوعي، دفعتها لمحاولة تغيير الوضع، لكن ذلك لا يمنعني من التركيز على الحالة الجزائرية التي سبقت نظيراتها العربية بأكثر من عقدين من الزمن، لم تكن فيها وسائل التواصل الاجتماعي موجودة، ولا وسائل الإعلام بنفس درجة التأثير الذي هي عليه اليوم، حتى التسميات كانت مختلفة بين ما سُمي بثورات الربيع العربي في بعض البلدان العربية، وما أُطلق عليه سنة 1988 في الجزائر أوصاف "شغب أطفال"، "صراع أجنحة في السلطة"، "انتفاضة شعب"، أو حتى "مؤامرة خارجية"، كانت الغاية منها إحداث التغيير وإنهاء الاستبداد وكل أشكال الظلم والفساد، وخنق الحريات.
انتفاضة الجزائريين، في أكتوبر/تشرين الأول 1988، سبقت ثورات الربيع العربي بعشرين عاماً، بينما تأخر الحراك الجزائري ببضعة سنوات عن الاحتجاجات التي وقعت في تونس ومصر وليبيا واليمن والسودان، وأدت إلى سقوط رؤساء تلك الدول، في حين تأخر سقوط بوتفليقة إلى سنة 2019، كثاني رئيس يسقطه الشعب الجزائري بعد الشاذلي بن جديد سنة 1991، بشكل غير مباشر، لأن الرجل اضطر آنذاك إلى تقديم استقالته تحت ضغوطات داخلية وخارجية، من داخل النظام وفي الأوساط الشعبية، اختلفت بشأنها تحليلات الخبراء، الذين اتفقوا رغم ذلك على دخول الجزائر والجزائريين مرحلة أخرى، كان يمكن أن تفضي إلى تحولات كبيرة سياسية واجتماعية، لولا دوامة العنف التي دخلتها الجزائر لسنوات وكلفتها أكثر من 200 ألف قتيل، وخسائر مادية فاقت المئة مليار دولار، زادتها تعقيداً الأزمة الاقتصادية العالمية التي أثرت على البلد.
بغض النظر عن الخصوصيات والتسميات والتبعات، فإن الذكرى الرابعة والثلاثين لانتفاضة الجزائر الأولى تستوقفني لأترحم أولاً على كل الضحايا، وأثني ثانياً على تضحيات كل المواطنين من الطلبة والعمال والبطالين، وكل المناضلين، سواء كانوا من صناع الانتفاضة، أم ممن استثمروا فيها للمطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية في زمن الأحادية، حيث تحققت الكثير من المكاسب، التي قادت بعد ثلاثة عقود جيلاً آخر للقيام بحراك شعبي وطني لم تسقط فيه روح واحدة، ولا قطرة دم واحدة، ولم يتم فيها تكسير نافذة واحدة، رغم التذمر الكبير من أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية سيئة، دفعت بملايين الجزائريين للخروج في مسيرات أسبوعية في كل ربوع الجزائر، أفضت إلى رحيل بوتفليقة ورموز نظامه الذين تحكموا في شؤون البلد لعقدين من الزمن.
التسميات والتوصيفات اختلفت بين انتفاضة 1988 وحراك 2019، لكن الأسباب والنتائج كانت متشابهة تقريباً، رغم اختلاف الأزمنة والأجيال، وحتى ولو لم تتحقق كل الغايات والأهداف لأسباب ذاتية تتعلق بالثورتين، وأخرى موضوعية مرتبطة بالتجاذبات الداخلية التي قيل عنها إنها هي من كانت المحرك الأساسي للانتفاضة والحراك، لكن إذا سلّمنا بذلك فإننا نبخس حق الناس وتضحياتهم ووعيهم ونضجهم ورغبتهم في التغيير، التي كانت دافعاً أساسياً، رغم بعض الانحرافات في أوساط الانتفاضة والحراك، والتجاوزات من طرف السلطة، والتي يحفظها التاريخ، وتتعلم منها الأجيال الصاعدة والأنظمة على حد سواء.
في الحالة الجزائرية كان حراك الجزائريين، في فبراير/شباط 2019، امتداداً لانتفاضة خريف 1988، حتى ولو بعد ثلاثة عقود، وبجيل آخر يحمل نفس الجينات، وفصيلة الدم، ونفس الإصرار والعزيمة والرغبة في التغيير والتجديد التي كان يتحلى بها جيل ثورة التحرير قبل ستين عاماً، حتى ولو لم تتحقق كل الأهداف، وحتى لو حدثت تجاوزات أو انحرافات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.