بعد عقود من مهاجمته.. لماذا قرر حزب الشعب الجمهوري التركي الدفاع عن الحجاب الآن؟

عدد القراءات
1,752
عربي بوست
تم النشر: 2022/10/05 الساعة 13:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/10/06 الساعة 04:36 بتوقيت غرينتش
كمال كليجدار أوغلو ورجب طيب أردوغان

نشر كمال كليجدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري التركي، مقطع فيديو على حسابه بموقع تويتر، قبل بضعة أيام، تحدث فيه عن موقف حزبه من الحجاب وارتدائه في تركيا، فقال: "لقد ارتكبنا أخطاء في الماضي أيضاً، لكننا عرفنا كيف نتغير ونتعلم من أخطائنا. والآن حان وقت التغيير"، ثم تعهد بتقديم مشروع قانون يكفُل الحق في ارتداء الحجاب بصفة قانونية. وينص مشروع القانون الذي قدِّم إلى البرلمان (اليوم) على أنه: "لا يجوز أن تتعرض النساء العاملات في المؤسسات والمنظمات العامة لأي إكراه ينتهك بطريقة ما حقوقهن وحرياتهن الأساسية، مثل الحق في ارتداء أو عدم ارتداء ملابس معينة أو مآزر أو زي رسمي، وما إلى ذلك".

كان كليجدار أوغلو قد وعد بإنهاء سياسة الاستقطاب في البلاد، وأعاد الجزم بوعده في "لقاءات إصلاح الأخطاء ولم الشمل" الذي نظمه حزب الشعب الجمهوري بمدينة إسطنبول في أغسطس/آب، ويبدو أن الوعود اكتسبت صيغة أكثر واقعية بهذه التصريحات.

لكن هذه المساعي تستدعي بعض الأسئلة، أبرزها: ماذا يقول تاريخ حزب الشعب الجمهوري بشأن التعامل مع قضية الحجاب؟ وما حاجة الحزب اليوم إلى الإيضاح وإعادة التفسير؟ دعونا نلقِ نظرة سريعة على الأمر بتعقُّب مسيرته التاريخية.

نزاعات حقبة تأسيس الجمهورية

إبان نشأة الجمهورية التركية الحديثة، اختلفت الأمة بشأن قضيتين رئيسيتين خلال حقبة التأسيس، ولا يزال الخلاف بشأنهما مستمراً حتى الآن، ألا وهما: عملية التحديث، والقضية الكردية. فلمَّا كانت الدولة الجديدة قد قامت على نموذج الدولة القومية الحديثة، فإنها اتخذت موقفاً واضحاً من القضية الكردية منذ البداية: كل مواطن يعيش على أرض الجمهورية التركية هو "تركي". ويمكن القول إن النقاش بشأن القضية الكردية نشأ متفرعاً عن المناقشات التقليدية لمقتضيات تأسيس الدولة القومية وتعاملها مع الهويات العرقية فيها. أما قضية التحديث والخلاف بشأنها، فهو في واقع الأمر خلاف مستمر منذ زمن الإمبراطورية العثمانية.

كانت قضية "التحديث" هي السياق الذي جرى فيه البحث عن إجابة لسؤال "كيف يمكن إنقاذ الدولة؟" في العهد العثماني، أما في حقبة تأسيس الجمهورية التركية فكانت الغاية من نقاش التحديث هي الإجابة عن سؤال "كيف يمكن للدولة التركية أن تلحق بالحضارة الغربية الحديثة؟". كانت قضية بقاء الدولة هي مدار الأمر في السياق الأول، أما في السياق الثاني، فكانت أفكار "العلمانية" و"التغريب" قد أصبحت مفاهيم أساسية. وكان النزاع الناجم عن الخلاف بشأن قضية التحديث في الجمهورية التركية أعمق بكثير مما كان عليه الأمر في الإمبراطورية العثمانية، فقد كان الانقسام أشد حدة، وزادت خطوات إلغاء الخلافة وإقرار قواعد اللباس الجديدة نارَه اشتعالاً، فاستفحل الانقسام وترسَّخ بين الفصائل العلمانية من جهة، والدينية المحافظة من جهة أخرى، وآلت الغلبة للفصيل الأول، فأشرف على تشكيل المجتمع بعملية هندسة اجتماعية كانت في غاية الضبط والتدقيق.

رؤية حزب الشعب الجمهوري لسكان الأناضول

بعد عقدين، ولما كان حزب الشعب الجمهوري هو الجناح السياسي لعملية التحديث [القسري] لتركيا، فقد خسر أول انتخابات أُجريت بعد نهاية حقبة الحزب الواحد، وفاز بها الحزب الديمقراطي، الذي كان منبثقاً عن حزب الشعب الجمهوري إلا أنه مال إلى الخطاب المحافظ بقدرٍ ما. وتبلور الموقف المناهض لحزب الشعب الجمهوري بين سكان الأناضول على أساس من رفضهم لرؤية الحزب القسرية للتحديث والمعادية للتدين. وفي هذا السياق، تفاقمت مشكلة الحجاب، التي اشتعل الخلاف بشأنها بعد الستينيات، وكان رأس حربة "التحديث" فيها الجناح السياسي لحزب الشعب الجمهوري و"الجيش" الذي يمكن إدراجه ضمن الجماهير التي يعبر عنها الحزب في العموم.

وهكذا جاء انقلاب 1980، فسنَّ ما يُعرف بـ"قواعد اللباس العام"، ومُنعت النساء المحجبات من العمل موظفات في هيئات الخدمة المدنية، وحظر "مجلس التعليم العالي" الحجاب في الجامعات عدة مرات، أولها في عام 1982، ثم أُلغي الحظر، فعاد المجلس لإقراره آخر مرة عام 1997. وكانت أشد السنوات اضطراماً بمشكلة الحجاب وأصعبها على المحجبات هي المدة التي أعقبت انقلاب 28 فبراير/شباط 1997، أو ما بات يُعرف بـ"الانقلاب ما بعد الحداثي".

بعد هذا الانقلاب، تعرضت نحو 30 ألف طالبة محجبة للإيذاء والطرد من مدارسهن. وبناء على أوامر من كمال كليجدار أوغلو، الذي كان مديراً عاماً لمؤسسة الضمان الاجتماعي التركية، فُتحت تحقيقات مع النساء اللاتي ذهبن إلى العمل بالحجاب. وكانت البروفيسور نور سيرتر، الأكاديمية المقربة من حزب الشعب الجمهوري والنائبة بالبرلمان عن الحزب بعد ذلك، هي مهندسة غرف الإقناع التي أنشأتها جامعة إسطنبول لاستدعاء الطالبات المحجبات والتضييق عليهن، لإجبارهن على خلع الحجاب. وخلاصة القول إن الرؤية التي كان يتبعها حزب الشعب الجمهوري تجعله أحد المشاركين في هندسة انقلاب 28 فبراير/شباط، وإن كانت مشاركة غير مباشرة. وقد كان انقلاب 28 فبراير/شباط نموذجاً تجلى فيه استمرار الصراع الذي لطالما كان قائماً منذ تأسيس الجمهورية التركية: بين تيار "التحديث" وتيار المحافظة الدينية.

تعديلات لحل مشكلة حظر الحجاب وموقف حزب الشعب الجمهوري

بعد أن وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا، تقدَّم في فبراير/شباط 2009 بمجموعة من  التعديلات الدستورية للبرلمان من أجل "رفع حظر الحجاب" وفاءً بالتعهد الذي كان قد قطعه للناس منذ سنوات. ومع أن نواب حزب الشعب الجمهوري عارضوا حزمة التعديلات الدستورية، فإنها قُبلت بأغلبية 418 صوتاً مؤيداً مقابل 103 أصوات معارضة في البرلمان. لكن حزب الشعب الجمهوري لم يكتف بذلك، وتقدم مع "حزب اليسار الديمقراطي" بطلبٍ إلى المحكمة الدستورية لإلغاء القانون، ورفضت المحكمة طلب تعديل الدستور.

على الرغم من موقف حزب الشعب الجمهوري المناهض لإصلاحات رفع الحظر عن ارتداء الحجاب، فإن دنيز بايقال، رئيس حزب الشعب الجمهوري، تصدر عناوين الأخبار إلي نوفمبر/تشرين الثاني 2008 بعد أن اتخذ مبادرة قلَّد فيها مجموعة من النساء المحجبات بالشادور شارةَ الحزب وأعلن عن فتح أبواب الحزب لانضمامهن إليه، ثم بدأت المناقشات بشأن الحملة التي عُرفت بـ"مبادرة الشادور" في حزب الشعب الجمهوري. وقد يبدو هذا الموقف بلا أهمية الآن، إلا أنه كان مثالاً معبراً عن مبادئ الحزب، ورؤية قاعدته الشعبية له وللمبادئ التي يجدر به إعلاؤها. وقد تعرض زعيم حزب الشعب الجمهوري آنذاك لانتقادات لاذعة من صحفيين وأكاديميين وناخبين مؤيدين لحزب الشعب الجمهوري ومقربين منه. ولم تستمر المبادرة بطبيعة الحال.

تضمنت "حزمة الإصلاحات الديمقراطية" التي أعلنها حزب العدالة والتنمية عام 2013 رفعَ الحظر المفروض على ارتداء الحجاب بين النساء العاملات في المؤسسات العامة بتعديل على اللوائح المنظمة. وانتقدت إدارة حزب الشعب الجمهوري حزمةَ الإصلاحات آنذاك واصفة إياها بأنها غير ديمقراطية بما فيه الكفاية؛ ونتيجة لذلك لم تنل التعديلات التأييد اللازم. أما اليوم، فلا يوجد حظر على الحجاب في المؤسسات العامة، ولا في الجامعات التركية، وإن لم يكن الأمر منصوصاً عليه في الدستور لكنه مقرَّر بتعديل في اللوائح.  ومع ذلك، فقد عارضت قيادة حزب الشعب الجمهوري كل خطوة اتخذت لرفع هذا الحظر ووقفت ضدها.

مبادرة الحجاب التي أعلن عنها كليجدار أوغلو

كما ذكرنا سالفاً، فإن حزب العدالة والتنمية حلَّ مشكلة حظر الحجاب بإزالة عبارة "الالتزام بأن تكون رؤوس النساء سافرة دائماً" من اللائحة. أما مشروع القانون الذي أعلنه كليجدار أوغلو وعرضه على البرلمان، فإنه يتضمن إضافة بند إلى قانون موظفي الخدمة المدنية، يقول بأن "الحجاب مسموح به". وتجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أن زعيم حزب الشعب الجمهوري يستخدم لفظ "الحجاب" ولا يستخدم لفظ "التوربان". لأن التوربان يعامل معاملة "الرمز السياسي" في السياق السياسي التركي، أما الحجاب فيُنظر إليه على أنه عادة غير مؤذية من ضمن التقاليد الدينية. ومهما كان من أمر، فلا يبدو أن مشروع القانون هذا سيكون له أي أثر عملي في تغيير واقع الأمور؛ لأن حرية العمل بالحجاب أقرَّت بالفعل في المؤسسات العامة بتركيا، إلا أن السؤال الرئيسي هنا هو ما الداعي الذي ساق حزب الشعب الجمهوري إلى طرح هذه القضية على جدول الأعمال؟.

أشار كمال كليجدار أوغلو صراحة في خطاب "الاعتراف والاعتذارات" إلى أنه يطمع في اجتذاب أصوات المحافظين بهذه الحملة، لا سيما أن الانتخابات التركية تأتي بعد بضعة أشهر. لكن الشيطان يكمن في التفاصيل، فحزب الشعب الجمهوري حزب ينطوي على فصائل مختلفة بداخله، ومن الواضح أن الفصيل الأكثر قومية فيه سيعارض هذا القانون. على الرغم من ذلك، ومع علمه بأنه سيُواجه بانتقادات من داخل حزبه ومعارضة بين كثير من قواعد ناخبيه، فإن كليجدار أوغلو تقدم بطلب التعديل إلى البرلمان. وللرد على هذه الخطوة، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خطابه (اليوم) أن إدارته "تعمل على وضع دستور يحترم الحقوق ويحفظ الحريات". وصرح المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية بأنه "ليست هناك حاجة إلى لائحة منفصلة بشأن الحجاب"، والمقصد أن القضية عولجت بالفعل من قبل.

لماذا جازف كليجدار أوغلو بطرح هذه القضية الآن؟

لماذا أثار زعيم حزب الشعب الجمهوري هذه القضية التي لم تكن محلاً للنقاش هذه الأيام؟ هذا هو السؤال الحقيقي. حزب الشعب الجمهوري له قاعدة انتخابية ثابتة، وتكاد نسبة التصويت له لا تتغير. فقد حصل الحزب على نسبة 25.98 % من الأصوات في انتخابات عام 2011، ثم على نسبة 25.31 % من الأصوات في انتخابات عام 2015، ثم نسبة 22.65 % في انتخابات عام 2018. وفي الوقت نفسه، لم تنصرف مناطق التصويت المؤيدة للحزب في العادة  عن التصويت له ولم تشهد تغييرات كبيرة. والخلاصة هنا أن هذه الخطوة بدت منطقية لكليجدار أوغلو، فهو يفكر في تحويل الأمر إلى فرصة ينتهزها في وقت يمر فيه الاقتصاد التركي بأوقات عصيبة. وعلى الرغم من أن ناخبي حزب الشعب الجمهوري على الأغلب ستُزعجهم مساعي رئيس الحزب للحصول على أصوات الشريحة الدينية المحافظة، فإن رهان كليجدار أوغلو على زيادة أصوات حزب الشعب الجمهوري -الممكن على الورق- قد يمكن يؤتي ثماره، لأن المتوقع أن ناخبي حزب الشعب الجمهوري لن ينصرفوا عن تأييدهم للحزب إلى حزب آخر مهما حدث.

ولكن، من ناحية أخرى، يمكن القول إن هذه الخطوة التي تأتي قبيل الانتخابات كانت تهدف إلى تغيير التصور السائد عن شخص كليجدار أوغلو وليس حزب الشعب الجمهوري. وهذا لأن البعض يزعم أن هذا المقترح قُدِّم إلى البرلمان دون استشارة فصيل داخل إدارة الحزب. وبعبارة أخرى، يمكن اعتبارها خطوة كليجدار أوغلو وليس حزب الشعب الجمهوري. والعامل الرئيسي الذي تسبب في هذا الوضع أن كليجدار أوغلو علوي. فمن حين لآخر، تصرح أحزاب أخرى -حتى حزب الجيد، المتحالف مع حزب الشعب الجمهوري حالياً- بأنه لو ترشح، فانتماؤه للطائفة العلوية سيمثل عقبة كبيرة. وهذا صحيح، بالنظر إلى التركيبة الاجتماعية في تركيا. فغالبية المجتمع، الذي يتبنى هوية سُنية بدعم الدولة منذ العهد العثماني، سيتردد في التصويت لرئيس علوي. وللحد من تبعات هذه العقبة، أقدم كليجدار أوغلو على  اتخاذ هذه الخطوة في وقت لم يتضح فيه بعد مرشح المعارضة، وفي الوقت نفسه ليزيل العقبات أمام ترشحه.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد إشجان
كاتب وباحث تركي
نائب رئيس مركز العلاقات الدبلوماسية والدراسات السياسية التركي
تحميل المزيد