إذا ما اكتملت الظروف الإيجابية التي تحيط ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، ولم تبرز في طريق التقدم الحاصل حيال هذا الملف أية تعقيدات أو مطبّات أو موانع غير محسوبة من أي نوع، فتوقيع الاتفاق بين الجانبين في مقر الأمم المتحدة في اليونيفيل في الناقورة وتحت علم الأمم المتحدة ورعايتها وفي حضور الوسيط الأمريكي، سيتم في غضون أيام قليلة، وقد لا يتأخر أبعد من نهاية الشهر الجاري، علماً بأنّ بعض المتفائلين أشاروا إلى أنّ سقف توقيع الاتفاق النهائي لا يتعدى الأسبوعين.
بالمقابل يبدو رئيس الجمهورية ميشال عون أكثر الأطراف حرصاً على توقيع الاتفاق قبل نهاية ولايته الرئاسية كمحاولة لإضفاء ولو إنجاز واحد على عهده الذي شهد أسوأ الانهيارات الاقتصادية بتاريخ البلاد، وبحسب المطلعين، فإن الرؤساء الثلاثة ميشال عون ونجيب ميقاتي ونبيه بري نجحوا في تحييد ملف الترسيم البحري مع إسرائيل عن خلافاتهم وصراعاتهم، وبالتالي جرى مقاربتها بموقف موحّد خلال الفترة الأخيرة، كذلك فإن حزب الله بات أكثر الأطراف حرصاً على الذهاب نحو الاتفاق على الرغم من التصعيد الكلامي الذي عاشه الملف.
أما إسرائيلياً فتبدو حكومة يائير لابيد مصرة على إنجاز الاتفاق. ولكنها تتعرض لضغوط قاسية بسبب حسابات انتخابية والتخوف من نسفه في حال وصل بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة، وتخشى الأطراف المحلية والدولية من عودة نتنياهو إلى المشهد، وخاصة أن ينعكس تلاقي روسيا التي وجهت ناخبيها في إسرائيل لانتخاب نتنياهو، بإعادة نسف الاتفاق أو تجميده؛ لذا فإن واشنطن تستعجل إتمامه قبل انتخابات الكنيست الإسرائيلي.
وحجم الضغوط في الداخل الإسرائيلي ضد حكومة يائير لابيد من شأنه تغيير المعادلة الانتخابية في إسرائيل، وخاصة بعد تهديد نتنياهو بعدم الالتزام بالاتفاق مع لبنان والانسحاب منه في ما بعد؛ ما سيعيد إحياء مشهد التطورات السلبية في الحكومة الإسرائيلية وانعكاس ذلك على المسار العام، وما إذا سيحصل تطور عسكري أم أن وجود الشركات والعمل والتنقيب والاستخراج هو بحدّ ذاته سيكون عنصراً معززاً للاستقرار. ولكن في حال أنجز الاتفاق، سيستخدم حزب الله ذلك ليعلن أنه اليد الطولى في تحقيق ازدهار البلاد عبر مسيراته وصواريخه والتي فرضت توقيعه، أما في حال رفض الإسرائيليون المقترح على وقع الضغوط، فسيخرج الحزب ليعلن أن إسرائيل غير جاهزة لذلك. هذا سيضع الحزب مجدداً أمام تحدّي الردّ العسكري وتنفيذ تهديداته.
لبنانياً، خلاصة الملاحظات على ورقة الوسيط الأمريكي آموس هوكشتاين عبر عنها كل الرؤساء الذين شاركوا والوفد التقني في اجتماع بعبدا الرئاسي والتقنيّ، في ظل ما نقل عن أجواء من الارتياح سادت خلال اللقاء. فخلال اجتماع الفريق التقني عرض كلّ طرف ملاحظاته على الورقة التي قدّمها الوسيط الأمريكي، فيما التقى الحضور على تقديم الملاحظات ذاتها، إذ سيطلب لبنان تعديل بعض الفقرات وتوضيح أخرى. وهناك اتّفاق على أن تُصاغ الملاحظات النهائية وتُرسل مجدّداً إلى الوسيط الأمريكي للنظر فيها على أن يتم تسليم لبنان الإجابة بشأنها في أقرب موعد ممكن ليتمّ تسريع الخطوات.
سياسياً، فإن هذا التطور المتسارع للملف الذي حصل يؤشّر إلى أن هناك تسوية مرتقبة ستشمل الحكومة ومن ثم الرئاسة على الرغم من تسليم الجميع أن الفراغ حاصل، لكن مقاربة هذا الاستحقاق بشكل حاسم لا تزال بحاجة لبعض الوقت، وذلك لأن موعدها لم يحن بعد.
والاتفاق على الترسيم البحري يعني أيضاً أن الحزب وإيران سيكون لهما تأثير واضح ومفصلي في الاستحقاق الرئاسي، أي أنه لن يجري السماح بانتخاب رئيس يستفز الحزب أو يعاديه، ولكن في الوقت نفسه فإن الحزب أبلغ الفرنسيين والقطريين أنه ليس بوارد إيصال رئيس يثير استفزاز وانزعاج دول الخليج، وخصوصاً السعودية التي تعهدت بإعادة تفعيل اتفاقياتها العشرين مع لبنان فور انتخاب رئيس يطابق مواصفات البيان السعودي الأمريكي الفرنسي الصادر في واشنطن.
وحزب الله بعد الترسيم ليس كما قبله، فهو الحريص على الاستفادة قدر الإمكان من كون ما جرى يخدم حضوره وشرعيته بها، وسيعمل على إعادة تجديد ثقة الأطراف الحليفة له بسلاحه؛ لأن استخدم معادلة الردع التي أنتجت الاتفاق، وبالتالي لن يسمح بطرح السلاح على طاولات البحث، خصوصاً أنه سيجد له مهمة مستقبلية وهي حماية عمليات التنقيب والاستخراج والبيع وتحصيل حقوق في مساحات أخرى، بالإضافة إلى دوره في حسم الترسيم البري، فيما على المستوى الداخلي فإن الحزب سيعمل على استثمار هذا الاتفاق بالسياسة الداخلية عبر تعزيز مكاسبه الحكومية والرئاسية، وعلى صعيد العلاقة بالقوى الخارجية والتي ستعتبره الطرف الأبرز، وإصرار الحزب على قول كلمته في الترسيم يشير إلى تقديم نفسه على أنه القادر على الانخراط في تسويات أو اتفاقيات عندما تسمح الظروف، وأنه أيضاً قابل للالتزام بمعادلة الاستقرار، طالما الشروط التي يراها مناسبة متوفرة.
ولا يمكن إغفال تزامن هذا الملف وتطوراته مع إعادة الاتصالات الجارية بين واشنطن وطهران لاستئناف الحوار النووي، وهذا الملف تقوم قطر بتحريكه في إطار جهودها الإقليمية لتخفيض النزاع، ونتج عن جهود قطر اتفاق توصل فيه الإيرانيون والأمريكيون لتحرير السجناء وتحرير أموال إيرانية بقيمة 7 مليارات دولار، وهذا الجهد تستكمل الدوحة توجيهه لحل النزاع اليمني، وهي التي تعمل على تجديد الهدنة في اليمن، على الرغم من الموقف الإيراني الذي يسعى لتحقيق مكسب من السعودية في العراق ولبنان مقابل الهدنة، لذا فإن الترسيم يأتي في مقابل تحصيل واشنطن وإسرائيل لاتفاق الترسيم البحري مع لبنان، والاتفاق البحري لم يعد تخفى به اليد القطرية والجهود التي بذلتها عبر دبلوماسيتها واستخباراتها على كل الصعد.
وهناك ترقب لقمة بايدن- ماكرون المقررة نهاية العام؛ حيث ستناقش ملفات ساخنة ومستعجلة كالأزمة في أوكرانيا وتحولات الميدان العسكري والخوف من أزمة نووية، إضافة للملف النووي والبحر المتوسط في ظل التصعيد التركي-اليوناني، قمة حافلة بالملفات الساخنة والملتهبة مثل الحرب في أوكرانيا وأزمة الغاز والاتفاق النووي مع إيران، لكن الملف اللبناني سيكون حاضراً. لكن لا يبدو حتى اللحظة أن الملف اللبناني سيكون بشكل جدي على طاولة بهذا الحجم، وهذه الملفات الشائكة، على الرغم من الاهتمام الفرنسي بطرح لبنان على جدول أعمال أي ملف.
فيما يتحضر الأردن وبمبادرة فرنسية لعقد اجتماع إقليمي مهم، وستحضره إيران وتركيا والسعودية ودول عربية كقطر ومصر والعراق، والأكيد أن الملف اللبناني هو وجبة أساسية كانعكاس للترسيم والتحضير للرئاسة حيث إن أفق التسويات قد بدأ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.