إلى وقت غير بعيد كان استهداف المسجد الأقصى من طرف الصهاينة كفيلاً بتفجير الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة وبغضب يعمُّ الأمة العربية والإسلامية من أقصاها إلى أقصاها على الكيان العبري، كما حدث مع زيارة شارون المشؤومة التي تسببت في اندلاع انتفاضة الأقصى المباركة، وهو ما كان يدفع قوات الاحتلال إلى التعاطي الحذر مع هذا الملف الحساس وتمرير عدوانها بحقه بأساليب ملتوية، أما اليوم فقد نجحت عصابات المستوطنين في فرض واقع تدنيسها المتكرر والمتصاعد للمسجد الأقصى حتى إنها لم تعد تقنع بالزيارات المتقطعة المحدودة بعد أن ثبتت عدوانها وصولاً إلى ما هو أشنع من التقسيم الزماني المكاني للمسجد والسعي للاستيلاء الكلي عليه وإقامة الهيكل المزعوم على "أنقاضه" مثلما بات يصرح زعماء الحركة الكهانية..
لم يأت هذا التجرؤ على الأقصى من فراغ، ففي الوقت الذي كانت الأنظمة العربية الفاسدة تطبّع فيه مع الكيان الصهيوني كانت النخب العربية والإسلامية تطبّع هي الأخرى مع الاعتداءات الصهيونية بحق القدس، وفي الوقت الذي أظهرت فيه الجماعات اليهودية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وخارجها أيضاً حماساً بالغاً ونفساً طويلاً في تحقيق أهدافها شهدت جبهتنا فتوراً قاتلاً وتبلداً في الإحساس بفظاعة ما يرتكبه المحتلون الصهاينة، باستثناء بعض البيانات والأشكال الاحتجاجية الباردة التي كانت تصدر بين الفينة والأخرى من باب إبراء الذمة لا غير.
محزن أن يكون صاحب الحق متقاعساً عن نصرته، فيما يصل المعتدي الليل بالنهار من أجل ترسيخ واقع يخدم أجندته على أرضنا المقدسة؛ حيث دفعه كل ذلك إلى التمكن من توجيه الأحداث إلى الوجهة التي يريد بخلاف من ينفعل معها ويتناسى قضيته المركزية فيسهل تحريفه عنها، فقد أدى الخلل في ترتيب الأولويات عند القوى العربية والإسلامية في مرحلة "الربيع العربي" إلى إهمال القضية الفلسطينية بعد أن التهت بالصراع الطائفي والعرقي والمناطقي وساهمت في تأجيج نيرانه الشيء الذي هوّن من خطورة العدو الصهيوني الذي أضحى ملاكاً في نظر البعض، وتبعاً لذلك فما بقي أمام فلسطين إلا الانتظار ولينتظر معها المسجد الأقصى حتى يبيد أحدها الآخر وحتى تستلم الفرقة الناجية المتغلبة على الجميع المشعل لتباشر مهمة تحريره، طبعاً إن بقي للأمة ساعتها باقية.
النتيجة أن تلك النخب وتلك التيارات افتقدت الحماس للدفاع عن المسجد الأقصى ولتحريك الشارع العربي والإسلامي من أجله كما كانت تفعل سابقاً، وحتى إن أرادت فقد أضحت عاجزة لأن الشارع لم يعد يستجيب لها، ليس لأنه تخلّى عن القضية الفلسطينية، ولكن لأنه أصبح يرفض التفاعل مع من ثبتت ازدواجية معاييره من أولئك الذين استمدوا شرعية وجودهم وبنوا جماهيريتهم على أكتاف قضيتها ثم تعاطوا بانتهازية مقيتة معها بعقدهم تسويات مشبوهة مع قوى الاستكبار العالمي متناسين أدوارها في تثبيت الغدة السرطانية في المنطقة، ظناً منهم أنها قد تساعدهم في إحراز مطالب شعوبية ضيقة الأفق؛ فإذ بها تغرقهم في صراعات لا أول لها ولا آخر حتى أضحوا أدوات تسعر بها الحرائق التي تديرها في المنطقة.
فلا هم حرروا شعوبهم من ربقة الاستبداد، ولا هم حافظوا على أصالة موقفهم من القضية الفلسطينية، ولا هم سلموا مجتمعاتهم من التفكك ليضيعوا فرصة ثورة حقيقية كانت ستستأصل شر الاستبداد المحلي المدعوم خارجياً من الأساس والتي كانت ستفك الحصار المضروب على القضية الفلسطينية وعلى المسجد الأقصى. هذا إن أحسنا الظن بهم وإلا فإن الغاية عند الكثيرين منهم كانت هي الاقتراب من دوائر السلطة رغم الأثمان الفادحة التي تم تقديمها من أجل ذلك.
لا يعاني المسجد الأقصى فقط من هذا التيار الارتدادي الذي أدار ظهره عنه، فهناك اتجاه تبخيسي من داخل مناصري القضية الفلسطينية لا يعطيه مكانته ورمزيته التي تستحق والذي يتماهى دون أن يشعر مع السياسات الصهيونية بقبوله بواقع تشظي القضية الفلسطينية إلى شظايا صغيرة والذي يركز عن الفروع وينسى الأصل؛ حيث يغرق في تفاصيل إكراهات معيشة الفلسطيني في الشتات أو تحسين ظروف الأسرى أو التخفيف من الحصار الخانق على قطاع غزة، الشيء الذي يخلق تباعداً بين أصحاب الهم الواحد حتى تحولوا إلى جزر معزولة ناهيك عن بروز أمراض ذاتية كالفصائلية والنزاعات العائلية التي زادت من الشرخ داخل المجتمع الفلسطيني.
قد يكون الأمر مفهوماً بالنسبة لمن يخنقه الواقع الضاغط الذي يحد من حركته، لكنه لا يبدو منطقياً بحال حين يكون مقصوداً من طرف البعض، بداعي جعل القضية أكثر إنسانية من أجل استقطاب متعاطفين جدد معها، ومن أجل نفي تهمة "الإرهاب" عنها؛ حيث يتحرجون من حضور البعد الديني باستحضار مركزية المسجد الأقصى في معادلة الصراع ويسعون إلى التقليل من شأنه، رغم أن العدو الصهيوني هو من استثار العاطفة الدينية ووظّفها أبشع توظيف في تكريس واقع احتلاله وانتهاكه للمقدسات، ومن العبث ألا نرد عليه بذات اللغة التي يستخدمها وأن نلغي المخزون الجهادي العظيم الذي يمثله الأقصى للشعب الفلسطيني ومن ورائه الأمة العربية والإسلامية.
يمثل المسجد الأقصى والقدس الخيط الناظم الذي يربط بين جميع القضايا الفرعية على الساحة المحلية الفلسطينية وكذا الفسيفساء المناطقية، فلقد رأى الجميع كيف كانت المعركة باسم القدس في السنة الماضية قادرة على توحيد كل الجبهات بما فيها جبهة عرب 48 والتي لم تمنع من التضامن العربي والإسلامي وكذا الدولي الاستثنائي مع القضية الفلسطينية، في سيناريو مشابه لما حدث قبل أكثر من عشرين سنة في الانتفاضة الثانية، وهو الدرس الذي يجب أن يظل محفوراً في الذاكرة؛ ذلك أن أكبر جريمة يمكن أن ترتكب بحق فلسطين هي تغييب أولى القبلتين ومسرى الرسول عليه الصلاة والسلام عن الصورة؛ حيث يعد ذلك بمثابة فقدان الأمة لذاكرتها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.