لا يكاد ينكشف فصل من فصول الإثارة والتشويق من تاريخ مقاومة المجاهد "زايد أوحماد" للفرنسيين، خاصة في أيامها الأخيرة بجنوب شرق المغرب حتى يتكشف فصل آخر.
تلك فصول من صفحات مجيدة تحفظها الروايات الشفوية التي يتناقلها الأبناء عن الآباء ويتوارثها الأحفاد عن الأجداد، بينما لم تُعط حقها من الاهتمام في التاريخ الرسمي المكتوب.
من هذه الروايات المشوقة التي يُجمع أهالي بلدة "تدفالت" من المسنين وحتى الشباب الذين سمعوها عن آبائهم على صحتها، تلك التي تقول بأن أحد رفاق زايد أوحماد أثناء مواجهته المباشرة في يومه الأخير مع الفرنسيين كان أعمى، ومع ذلك فقد قاوم بشدة وبسالة لا توصف في لحظة هجومهم الغادر والمباغت على البيت الذي كانوا يقيمون فيه، والأكثر من ذلك أنه تمكن من قتل اثنين منهم، وفي روايات أخرى ثلاثة.
ستتساءل أيها القارئ الكريم؛ وكيف لأعمى أن يصيب هدفه بدقة؟
حكاية باسو وعلي نايت حسو
الروايات المتداولة بهذا الشأن، تورد أن هذا الضرير الذي لم يكن سوى "باسو وعلي نايت حسو" كان حاد السمع؛ حيث إن أذنيه كانتا تلتقطان أي صوت مهما كان خافتاً، وهو ما مكّنه من تحديد مكان انطلاق الرصاص بدقة متناهية ومن ثم النجاح في تفاديه، بل وقتل المهاجمين كل واحد برصاصة.
الغريب في أمر هذا المقاتل الشرس أنه لم يكن فقط أعمى، بل إنه فضلاً عن ذلك أصبح أعرج بعدما أصيب بشظايا قنبلة في معركة "بوكافر" الشهيرة التي خاضتها قبائل "آيت عطا" ضد الجيش الفرنسي وعملائه سنة 1933، وهي التي أكسبته على ما يبدو التجربة والبراعة في التصويب وعلمته "الاقتصاد في الرصاص"؛ إذ كان لسان حال مقاومي "بوكافر" سنة 1933 هو؛ "ليس لدينا رصاص نضيعه، لذا يجب أن يقتل كل عدو برصاصة".
والأغرب في قصة باسو وعلي، أن هذا المقاوم الأعمى والأعرج كان هو آخر من قُتل في ذلك اليوم الحزين الذي أجلى عن مقتل زايد أوحماد ورفاقه الثلاثة إضافة إلى عدد من المجندين لدى فرنسا تحصرهم الروايات بين ثلاثة وسبعة.
نظراً لشراسته رغم إصابته بالعمى ورغم إعطائه "الأمان" من طرف الفرنسيين إن هو استسلم، إلا أن باسو أصر على القتال حتى آخر رمق دفاعاً عن أمه وعيشة حدو، زوجة حمو وعلي الرفيق الآخر لزايد أوحماد الذي كان لا يفارقه كظله.
خاطب باسو وعلي الفرنسيين وأعوانهم الذين عاهدوه إن هو استسلم أن يكون في حمايتهم بالقول: "لا عهد ولا أمان للكفار الخونة أعداء الله والإسلام والمسلمين الأحرار وأعداء وطنهم وشعبهم" (ورد في مجلة تاريخ المغرب ص 121، العدد 5 نوفمبر 1994).
لم يكن باسو مخطئاً عندما رفض عرض الفرنسيين، فقد أخبره حدسه أنهم لن يحفظوا وعداً ولن يلتزموا بعهد، وهو ما كان مخططاً له بالفعل، فحسب أحد من حضروا تلك الأحداث، "فإن مخزنيين مغربيين أشارا على ملازم فرنسي بذبحه عند خروجه، وأن الكذب هو الوسيلة الوحيدة الكفيلة بإقناعه لتسليم نفسه حياً". (مجلة تاريخ المغرب).
أمام هذا العناد والتحدي، وبعد ساعات من تبادل الرصاص امتدت من ساعات الصباح الأولى حتى العصر، لجأت فرنسا إلى طريقة بشعة للسيطرة على هذا الأسد الثائر بأن قامت بإشعال النيران في محيط البيت الذي كان يقيم فيه هو وأمه وعيشة حدو جنباً إلى جنب مع جثة زايد أوحماد الملطخة بالدماء؛ إذ كان أول صرعى تلك المواجهة المباشرة. هذه الطريقة الوحشية أصابت باسو وعلي بالاختناق، فلم يعد يقوى على الحركة والدفاع عن نفسه وأمه، لتخترق رصاصة غادرة من أحد القناصة جسده، كما اخترقت قبله أجساد رفاقه الآخرين في ذلك اليوم 5 مارس 1936.
استشهد باسو وعلي ومن معهما ليضافوا إلى لائحة "أبطال بلا مجد"، ممن لا أحد من الكتاب والمؤرخين كتب عنهم ولا أحد من المسؤولين يعرفهم، فأنى أن يبحثوا عن أبنائهم وأحفادهم لإنصافهم؟
وبالقضاء على هذا المقاتل الشرس الذي لم تمنعه الإعاقة ولا العمى من القتال حتى النهاية، تكون فرنسا قد قضت على مقاومة زايد أوحماد التي زرعت الرعب والهلع في صفوف ضباطها وأعوانهم لأزيد من سنتين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.