تشهد أوروبا تغيّراً سياسياً هاماً قد يغيّر آليات المسار الديمقراطي والانفتاح السياسي والانتعاش الاقتصادي الذي عرفته أوروبا بعد هزيمة الفاشية والنازية وإنشاء السوق الأوروبية المشتركة التي أصبحت نظاماً تكاملياً اقتصادياً وسياسياً لعبت فيه روما دوراً محورياً في نجاحه.
سبعة عقود مضت وظنّت أوروبا أنها قضت على خطاب الكراهية ومعاداة السامية محمّلة الغير كل مشاكل الرجل الأوروبي الأبيض المسيحي الذي بات مهدداً في بيته، حسب اعتقاد أغلبية الإيطاليين والفرنسيين والنمساويين والهولنديين وحتى السويديين.
خطاب الكراهية في أوروبا
هذا الخطاب الذي غذى منذ عقود زعماء اليمين المتطرف في كل من إيطاليا وفرنسا خصوصاً، أصبح سلعة انتخابية رابحة في جل الدول الأوروبية الشمالية وحتى في شبه الجزيرة الاسكندنافية التي كانت تُعرف بقيم التسامح والانفتاح على "الآخر" المغلوب على أمره، الذي عانى من ويلات الظلم والاضطهاد في وطنه الأم.
بدأ هذا الخطاب الشعبوي في فرنسا في بداية ثمانينات القرن الماضي، كان جون ماري لوبان زعيم حزب اليمين المتطرف الجبهة الوطنية والد مارين لوبان مرشحة حزب اليمين المتطرف التجمع الوطني في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في شهر نيسان/أبريل الماضي؛ حيث كان يربط دائماً جون ماري لوبان مشاكل فرنسا بالمهاجرين المغاربة كان يقول: "مليوني شخص عاطل على العمل، مليوني مهاجرا!"، بعبارة أخرى سبب ضعف فرنسا هم المهاجرون العرب.
حينها كان لا يتحدث كثيراً على الإسلام حتى عام 1989، حيث تعد هذه السنة نقطة مهمة في فهم صعود اليمين المتطرف في فرنسا وأوروبا عموماً؛ حيث عرف خطاب زعماء اليمين المتطرف في أوروبا تصاعداً عمودياً حيث تحوّل موضوع معضلة الهجرة والمهاجرين من مسألة اقتصادية محضة إلى قضية سياسية عرقية-دينية يستثمر فيها اليمين المتطرف والإعلام المتغطرس كل خمس سنوات.
هذا الخطاب العنصري الذي فتح لأوّل مرة باب دخول الأحزاب اليمينية المتطرفة لقصر السلطة في إيطاليا عام 1994. فاز تحالف ائتلاف اليمين واليمين المتطرف في إيطاليا في الانتخابات التشريعية بزعامة رجل الأعمال، صاحب الإمبراطورية الإعلامية والإنشاءات في إيطاليا وفرنسا سيلفيو برلسكوني، الذي أحدث بركاناً سياسياً في إيطاليا وأوروبا، غيّر "الفارس سيلفيو" كما يلقّب العمل السياسي وفن الممكن في عالم السياسة ليس في إيطاليا فحسب بل في أوروبا وبعدها في الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل.
بعد فوز ائتلاف اليمين واليمين المتطرف في انتخابات عام 1994 شكّل حكومة ائتلافية مع زعيم حزب اليمين المتطرف جيوفاني فيني رئيس حزب حركة إيطاليا الإجتماعية أيضا مع زعيم رابطة الشمال أمبرتو بوسي. هذا الائتلاف يعد اليوم مرجعية ائتلاف زعيمة حزب "إخوة إيطاليا" ذي الجذور الفاشية الجديدة بزعامة جورجيا ميلوني، حسب الإعلام اليساري واليمين المعتدل.
جورجيا ميلوني في ذهن الإيطاليين والفرنسيين
جورجيا ميلوني التي تعتبر الفارس سيلفيو برلسكوني ملهمها السياسي والدوتشي بينيتو موسوليني زعيم الحزب الوطني الفاشي مرشدها الروحي. كان أول ظهور للمرأة القوية الشقراء في إيطاليا الجديدة عام 2006، حيث أصبحت جورجيا ميلوني نائبة في البرلمان الإيطالي وفي عام 2008 عيّنت وزيرة للشباب في الحكومة الثانية لسيلفيو برلسكوني.
ففوز جورجيا ميلوني في الانتخابات التشريعية الأخيرة سيمنح فرصة ثانية لتحالف اليمين واليمين المتطرف الذي تتزعمه هذه المرة امرأة، التي ستكون أول امرأة تترأس المجلس الإيطالي. أي أوّل رئيسة حكومة في تاريخ إيطاليا. هل فعلاً يوجد هناك استثناء إيطاليا في السياسة كما هو موجود في الموضة والطبخ وكرة القدم؟
يبدو أنّ الناخب الإيطالي يريد أن يمنح فرصة ثانية لليمين واليمين المتطرف ويقول لرئيسة المجلس الجديدة: كوني جميلة، واحكمي!
حيث منحها أغلبية مريحة في البرلمان لتحكم وتسود على رأس ائتلاف غريب لمدّة خمس سنوات، علماً أن معدّل عمر الحكومات الإيطالية غالباً لا يتجاوز العام ونصف. لكن هذه المرة السياق الاقتصادي المحلي والتقلبات الجيوسياسية على الصعيدين الدولي والإقليمي لا يسمح لتحالف ائتلاف اليمين واليمين المتطرف أن يكون ائتلافاً هشا كـ"جبنة الموتزاريلا".
وبالتالي الذهاب بالبلاد نحو المجهول في ظل الأزمة الإقتصادية الخانقة التي تعيشها إيطاليا منذ عقود وازدادت تفاقماً بعد التداعيات الصحية والاجتماعية لجائحة كورونا (كوفيد-19) قبل عامين والحرب الروسية-الأوكرانية القائمة التي ضربت في عمق المجتمع الإيطالي كباقي المجتمعات الأوروبية بسبب ارتفاع سعر الغاز والنفط في السوق الدولية مما أدى إلى شبه إنهيار القدرة الشرائية للعديد من الدول الأوروبية، ضف الديون العامة على عاتق الدولة الإيطالية، حيث يعد ثاني بلد بعد اليونان في منطقة اليورو.
هذا ما يجعل تماسك تحالف ائتلاف اليمين واليمين المتطرف أمراً وجودياً للتحالف الحكومي المقبل ولإيطاليا؛ رغم معارضة الشريك الثاني في مثلث الائتلاف زعيم حزب اليمين المتطرف الرابطة ماتيو سالفيني المعادي للمهاجرين وللاتحاد الأوروبي والمقرب من موسكو، على عكس زعيمة حزب أخوّة إيطاليا جورجيا ميلوني التي تعد من المعجبين بالسياسة الترامبية والمقربة من العقل المدبر رئيس الديوان الرئاسي بالبيت الأبيض للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ستيفان بانون. كون الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يتشابه كثيراً مع الفارس سيلفيو؛ كلاهما نجحاً في إزالة غموض فن السياسة وجعلها أمراً تافهاً؛ للرجلين قدرات على قلب الطاولة وإعادة توزيع أوراقها كل ليلية.
لهذا يمكن القول عن رئاسة الوزراء الإيطالية القادمة جورجيا ميلوني هي أقرب من سارا بالين بأمريكا أكثر من مارين لوبان بفرنسا.
هذا ما يجرنا لربط بين أوجه التشابه والاختلاف بين ميلوني ومارين، كلاهما شقراوان متعصبتان لثقافة وهوية بلادهما، خطابهما ضد العرب والمسلمين متشابه إلى درجة يظن المرء أن حبر قلمهما ينبع من منبع مشترك.
كلتاهما معجبتان بالأنظمة القمعية العربية والأحزاب الطائفية. نسيتا أن سوء إدارة وفشل سياسات هذه الأنظمة والأحزاب هي التي باتت تدفع آلاف المخاطرين بمالهم وأنفسهم في مياه بحر أصبح وحشاً مفترساً بحثاً عن حياة أفضل في إيطاليا وفرنسا.. في حين خطاب ميلوني ومارين ضد العرب والمسلمين فاق درجة الكراهية والعنصرية.
جورجيا على عكس مارين وصلت للحكم في فترة قصيرة من الوقت ليس بسبب بلاغتها ورؤيتها، لكن بسبب النظام الانتخابي الإيطالي (الاقتراع النسبي) والنظام الدستوري شبه البرلماني المبني على مبدأ التحالفات والأغلبية النسبية، على عكس فرنسا التي تطبق نظاماً انتخابياً مخالفاً أي الاقتراع المباشر في دورتين ونظاماً دستورياً شبه رئاسي يعتمد على نسبة (50+1).
أيضاً، اليمين واليمين المتطرف في فرنسا ليس كتلة حزبية متجانسة أو على الأقل هذه الكتلة تتقن فن الممكن في السياسة على النموذج الفارس سيلفيو أو الرجل الأشقر الأمريكي الرئيس السابق دونالد ترامب الذي استطاع أن يفجر الحزب الجمهوري الأمريكي ويقوده إلى حضن أقصى اليمين.
رسالة من وراء الألب
الملاحظ، أن رسالة تحالف اليمين واليمين المتطرف في إيطاليا وصلت مقرات أحزاب اليمين واليمين المتطرف في فرنسا، وبدأ ينظر قادة وناخبون هذه الأحزاب لفوز تحالف اليمين واليمين المتطرف في إيطاليا كنموذج يجب أخذه بالحسبان، خاصة حزب اليمين في فرنسا.
إن تفكك أحزاب اليسار في كل من إيطاليا وفرنسا وتبخر برامجها بسبب انهيار الأيديولوجيات قد سمح لصعود الأحزاب اليمينية المتطرفة الشعبوية المعادية للعرب والمسلمين في جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
هذه هي المرة الأولى في التاريخ السياسي الإيطالي والفرنسي التي تصبح فيه المرأة في منصب قوة تستطيع أن تغيّر في موازين القوة بين القوى السياسية والنخب الفكرية في البلاد. على الرغم من غالبية الحركة النسوية في كل من فرنسا وإيطاليا لا ترغب في سطع نجم مارين وميلوني في سماء فرنسا وإيطاليا، لكن نجمهما أصبح نجمة قطبية تطل كل خمس سنوات في سماء ملايين النساء في فرنسا وإيطاليا اللواتي بات شغلهن الشاغل: اللوازم الضرورية للبيت وتأمينه من خوف وإطعام أولادهن من جوع.
للرمزية في السياسة مقالها ومقامها، قرن كامل مضى على دخول الدوتشي إلى روما، وسبعة عقود مرّت على أوروبا بعد ما عرفت سنوات الدمار والخراب والكراهية والعنصرية. ها هي اليوم تنتخب على جيل جديد من الساسة لم يتخرجوا في مدارس النخبة على غرار المدرسة الوطنية للإدارة ومعاهد العلوم السياسية، هذا الجيل نسي آلام الفاشية مثلاً في فرنسا آل لوبان يعرفون طعم ذوقها وأساليب قمعها.
إنّ آمال خطاب ميلوني ومارين الداعي للانعزالية الفاشية في عالم جديد لا تختلف ملامحه الجيو-سياسية والاقتصادية على ملامح عالم بداية القرن الماضي تعرف فيه قواعد لعبة الأمم تشكيل المحاور وتوزيع الأدوار في عالم يعيش أزمة طاقوية وغذائية.. كيف تنظر زعيمة حزب أخوّة إيطاليا للتقارب الجزائري-الإيطالي؟ وكيف تنظر زعيمة حزب التجمع الوطني إلى العلاقات الجزائرية-الفرنسية على ضوء أزمة الغاز التي تعرفها فرنسا؟ أو تترك هذه الأمور للدبلوماسية السرية تدير زواياها، حسب مصلحة كل طرف.
في حين على الأحزاب اليمنية المتطرفة أن لا تنغلق في بيتها وإلا أصبح بيتها وعائلتها ودينها في عزلة يائسة ليس لسوء التقدير، وإنما بسبب نظرة ضيقة تدعو إلى أخوّة عرقية دينية معادية للغير، هذا الغير الذي بنى بسواعده روما وباريس وساهم في انتعاش اقتصادهما وتحقيق الاستقرار للنظام التكاملي الأوروبي طيلة العقود الماضية وشارك في هزم الفاشية والنازية بصدور عارية وتضحيات أبطال على شواطئ سردينيا وكورسيكا وليس في ملاعب سان سيرو وفيلودروم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.