"عمو رمى بابا من البلكونة".. بهذه العبارة يهتز المجتمع المصري لوقوع حادثة قتل جديدة في المجتمع، والضحية هذه المرة هو طبيب حلوان، الدكتور ولاء زايد، الذي راح ضحية خلاف أسري، وفوق ذلك فقد شهد طفله مقتله أمام عينيه، فأي قسوة قد يعايشها الطفل في حياته أشد من رؤيته مقتل أبيه بأم عينيه؟! وأياً كان سبب القتل أو الخلاف الذي أفضى إليه نريد أن نسلّط الضوء على كل طفل يعايش مثل تلك المأساة، ونفهم كيف تؤثر على نفسيته ومستقبله؟ وما سبب انتشار ظاهرة القتل بهذا الشكل في المجتمع مؤخراً؟ وكيف يمكن القضاء على العنف والجريمة في المجتمع؟
شهدت مصر في الفترة الأخيرة ارتفاعاً ملحوظاً في معدل انتشار جرائم القتل، والتي كان أبرز أسبابها الخلافات العاطفية أو الأسرية، فما سبب انتشار تلك الظاهرة في المجتمع؟
بالرجوع إلى المختصين في مجال علم الاجتماع يتبين لنا أن أبرز الأسباب وراء انتشار ظاهرة القتل بالمجتمع هو ضعف الوازع الديني والفهم الخاطئ للدين، ويأتي بعدهما الأخطاء التربوية التي تحدث أثناء التنشئة الأسرية للفرد، وتؤثر في تكوينه الشخصي والنفسي والسلوكي، إضافة لعدم قيام الوالدين بدورهما في تنشئة طفل سوي نفسياً، وذلك بسبب الإهمال والتقصير والتركيز على الجوانب المادية في الحياة وتوفير متطلباتها، وعدم الاهتمام بالإشباع العاطفي للأبناء؛ ما يولّد جيلاً منحرفاً.
تأتي المدرسة بعد المنزل، حيث إن غياب المدارس عن القيام بدورها من توجيه وإرشاد يساعد على انتشار الجرائم الأخلاقية والسلوكية، كذلك غياب دور المؤسسات الإعلامية في تثقيف الناس وتوعيتهم، وانتشار ثقافة العنف المجتمعي والجريمة، وخاصة مفهوم "البلطجة"، وأخذ كل شخص حقه بنفسه بمفهوم شريعة الغاب، وانتشار الأفلام والمسلسلات، بل والأغاني التي تشجع وتؤكد على تلك المفاهيم، في غياب واضح للرقابة الإعلامية على ما يتم غرسه من قيم لا تتناسب مع طبيعة المجتمع المصري.
كذلك فإن الفقر والبطالة والجهل والضغوط الاقتصادية تلعب دوراً مهما في انتشار معدل الجريمة في المجتمع، وذلك بالتوازي مع غياب العدل والتعرض للظلم والقهر والعنف، خاصةً في المشكلات الأسرية، التي تلعب دوراً مهماً، فانهيار الأسرة يعتبر انهياراً للمجتمع، فالخلاف الأسري لا يؤثر على الأبوين فقط، وإنما التأثير الأكبر يقع على الأبناء، والذي يؤدي للتشوهات والعقد النفسية لديهم، والتسرب من التعليم، وزيادة ظاهرة أطفال الشوارع، وأيضاً معدل الجريمة في المجتمع مستقبلاً.
كيف يؤثر العنف وجرائم القتل على الأطفال نفسياً ومستقبلياً؟
وفق الدراسات والأبحاث التي تمت في مجال الصحة النفسية على مدار سنوات، فإن جرائم القتل تعتبر من أشد أنواع الضغوطات النفسية التي على الطفل مواجهتها، بل هي أشد نفسياً على الطفل من الوفاة الطبيعية لأحد الوالدين أو طلاقهما، حيث يستعصي على الطفل فهم أن شخصاً بالغاً بدلاً من أن يحميه قام بقتل شخص آخر يحبه.
ويُعتبر عمر الطفل وقت وقوع الجريمة من العوامل المهمة والمؤثرة في مدى قدرته على استيعاب الحدث والتغييرات الواقعة بشكل كبير، حيث إن طفلاً عمره عامان يختلف عن طفل عمره عشر سنوات، فالتأثير السلبي للجريمة على الطفل يكون أكبر كلما كان الطفل أصغر بالعمر، لأنه يفتقر لكيفية ومهارات التعامل مع الحدث مقارنة بالأكبر منه سناً، الذي تُسعفه الكلمات والجمل التعبيرية والقدرة على طرح الأسئلة والنقاش مع الآخرين لفهم الأمر وتجاوزه أيضاً.
كذلك يختلف الأطفال في طرق التعامل مع الحدث وكيفية التعبير عنه، فبعض الأطفال يظهرون الحزن الشديد والبكاء المستمر دون توقف، والتعلق الشديد بمقدم الرعاية له بعد وفاة محبيه، وبعض الأطفال قد يظهرون الحزن الشديد، بالإضافة للخوف من البقاء وحيداً. وعلى الجانب الآخر فقد يبدي بعض الأطفال ردود فعل ومشاعر الغضب الشديد والعدوانية، والأكثر أنه ربما يتعاطف مع القاتل، وربما تؤدي ردة الفعل إلى الرغبة في العنف والانتقام فيما بعد.
وعلى النقيض، فبعض الأطفال تبدو عليهم اللامبالاة بما يحدث حولهم، وكأنهم ليسوا جزءاً من الحدث، وهو ما يسمى بالفصل، والبعض قد يعبر عن ذلك بالضحك، فردود الفعل النفسية السلوكية متنوعة وكبيرة، وتختلف باختلاف شخصية الطفل، ولكن كلها طبيعية.
وللأسف فإن جرائم القتل التي تحدث بين أفراد العائلة تؤثر على الطفل بشكل كبير، وتمسّ معتقداته الأساسية تجاه نفسه ومستقبله والمجتمع حوله، ما يؤثر على سلوكه وعلاقاته لاحقاً، مثل الانتماء لمجموعات إجرامية، أو يتحول لشخصية شكاكة، يُشكّك في كل شيء، وكل من حوله، أو شخصية رضائية، تحاول إرضاء الجميع طوال الوقت حتى على حساب نفسه وراحته الشخصية.
كما تؤثر معايشة الأطفال لجرائم القتل على سلوكهم، والتي تظهر في صعوبات النوم، وبلل الفراش، ومص الإبهام، وتجنب المدرسة، وانخفاض الأداء المدرسي، والعزلة التامة، والإحباط، والقلق، وأعراض جسدية مثل الصداع وآلام المعدة.
كيف يمكن القضاء على ظاهرة العنف والجريمة في المجتمع؟
لا بد من تضافر جميع الجهود للقضاء على الجريمة، بداية من تجديد الخطاب الديني وتصحيح المفاهيم الدينية لدى الناس، ونشر روح التسامح والمحبة وقبول الآخرين، والعمل على نشر الرحمة والعدل بين الناس، وقيام المؤسسات الإعلامية بدورها في توعية الناس وتثقيهم ضد مخاطر انتشار الجريمة، والرقابة الإعلامية للأفلام والمسلسلات التي تشكل وعي جيل ومجتمع بأكمله، والانتباه للرسالة التي نريد إيصالها، وكذلك قيام المؤسسات التربوية بدورها في توعية الطلاب وغرس القيم الحميدة في عقولهم، ونبذ العنف والأخلاق السيئة، وتقديم نماذج يقتدى بها، إضافة لتأهيل المقبلين على الزواج والتأكد من تلقيهم الأساسيات الضرورية لتنشئة جيل سوي وتوعيتهم بأسس التربية السليمة.
كذلك لا بد من العمل للقضاء على البطالة والفقر بما يُسهم في تخفيف الضغوط الاقتصادية على الأسرة، وبالتالي تقليل فجوة المشكلات الأسرية والاجتماعية، وتضافر الجهود لحل مشكلة أطفال الشوارع، والعمل على إعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع من جديد، والرقابة على المواد المقدمة إعلامياً بما يلائم المجتمع وسلامة الأسرة المصرية، خاصة المواد المقدمة للأطفال، وتفعيل دور القانون بما يحمي المعتدى عليه وردع الجناة؛ لئلا يتساهل آخرون في الإقدام على ارتكاب جرائم أخرى.
كيف نعالج الأمر تربوياً ونساعد الطفل على التعافي نفسياً؟
يجب معرفة المدخل المناسب للطفل بمعرفتنا لطبيعة شخصيته، حتى نستطيع التعامل معه بشكل ملائم، فبعض الأطفال قد يساعدهم الحديث في الأمر، أو العزف، أو ممارسة الرياضة، والبعض الآخر قد يرفض الحديث ويلجأ للرسم، المهم هو معرفة ما يناسب الطفل والتعامل معه من خلاله، وإن لم نكن نعرف ما يناسبه فيمكن تجربة عدة أنشطة، وملاحظة ما يميل إليه الطفل، أو استشارة مختص نفسي يساعدنا في معرفة ذلك ويتابع حالة الطفل ومدى تقدمه.
إن كان الطفل في سن كبيرة يدرك ما حوله، يفضل ألا يرى المتوفى إن لم يكن رأى مشهد القتل وسمع الصوت فقط أو عايش الشجار فقط، وإن أصر فيجب تأهيله نفسياً لذلك، وشرح صورة عما سيراه بشكل مناسب لعمره، والأفضل منعه ومناقشته في الأمر وإقناعه بالاحتفاظ بصورة ذهنية جميلة سابقة للمتوفى.
وإن أراد الطفل لاحقاً الاستفسار عما حدث ومناقشة الأمر، فيجب الانتباه للكلمات المستخدمة معه أثناء توضيح وسرد الحدث، مثل شخص مجرم قتله أو هكذا كي لا يشعر بالخوف ويخشى فقد شخص آخر عزيز عليه أو إيذاءه هو نفسه، أو غرس الحقد والانتقام داخله، أما لو كان في عمر صغير فيمكن استخدام الكلمات المستعارة أو المشاهد الكرتونية لتوضيح الأمر بشكل يلائم عمر الطفل، وإن كان في سن المدرسة ويستطيع البحث وحده على الإنترنت فلا يجب منعه، ولكن يجب متابعته وملاحظته وتوضيح الأمر له بشكل مناسب نفسياً، ويمكن الاستعانة بمختص نفسي إن تطور الأمر بشكل غير متوقع.
كما يتوقف رد فعل الطفل بشكل كبير على المحيطين به، فيجب الانتباه دوماً لأهمية دعم الطفل وسؤاله عما يشعر، وغمر الطفل بالدعم والاهتمام، وعدم إخفاء معلومات عن الطفل حتى لا يؤثر بثقته بمن حوله، لكن إعطاءه ما يناسب عمره ومدى استيعابه، وتقسيمه على مراحل، ومراعاة الكلمات المستخدمة، مع الكثير من الاحتواء والتأكيد على كوننا جانبه وسنجتاز الأمر معاً.
يجب الاهتمام بالحفاظ على الروتين اليومي السابق للطفل، وممارسة الأنشطة التي اعتاد عليها، حتى لا تسبب فجوة نفسية كبيرة عليه، ويمكن مساعدته على التعبير عن مشاعره إن كان يرفض الحديث، عن طريق الكتابة لنفسه أو رسائل للمتوفى يخبره فيها عما يشعر ويفكر فيه.
هناك بعض الأسر تهتم بتقديم مساعدات للفقراء بنية وهب الثواب للمتوفى، فيمكن السماح للطفل بالمشاركة في ذلك إن أراد، فبعض الأطفال يفرحون بذلك كثيراً، ويُخفف عنهم وقع الصدمة، خاصةً إن أخبرته أن المتوفى يَسعد بذلك كثيراً ويشعر بنا.
ساعِد الطفل أن يتعرف على مشاعره، يعبر عنها ويسميها، فهو قد يلجأ للتعبير بشكل مختلف كالضحك أو الغضب الشديد، لأنه لا يعرف كيف يعبر عن مشاعره بشكل صحيح، فأخبِره أن مشاعره طبيعية، وأنه يمكنه التعبير عنها متى ما أراد، وعلِّمه وسائل مناسبة للتعبير عنها كما ذكرنا سابقاً، حسب ما يناسب طبيعة شخصيته.
أخبِره أن المتوفَّى حي في قلوب محبيه، وأنه يمكنه إسعاده بأن يكون أفضل وأقوى ويهتم بنفسيته وصحته ودراسته، فذلك يخفف وطأة الحزن عن الطفل، وتأكد أن الطفل لا يقوم بجلد ذاته، فقد يتهم بعض الأطفال أنفسهم بالتقصير، وأنهم لو كانوا أقوياء وكباراً بما يكفي لاستطاعوا حماية القتيل وحالوا دون قتله، فتأكد أن الطفل لا يفكر بتلك الطريقة، وأن مواصلة حياته الطبيعية ليست خيانة للمتوفى، بل يسعده بأنه قوي وقادر على تخطي الألم وفعل أشياء أخرى بديلة يكون لها أثر، وصدقة جارية للمتوفى، وأنه عمله ونسله الصالح من بعده.
في النهاية.. إذا شعرت أن الطفل لا يتعافى بشكل سليم فقد يكون الطفل يعاني من اضطراب كرب ما بعد الصدمة، أو اضطراب التكيف، ويُنصح باللجوء للعلاج النفسي الذي يستخدم جلسات علاج فردي أو جماعي، ومساعدة الطفل على تعلم طرق التعبير اللازمة للتعبير عن ألمه، وكيفية التعامل معها والتعافي منها بطرق صحيحة، ولا عيب في اللجوء للمختصين المحترفين حينما يكون الألم والفجيعة أكبر منا جميعاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.