حين وقفت على قبر القرضاوي..

عربي بوست
تم النشر: 2022/09/30 الساعة 14:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/09/30 الساعة 14:38 بتوقيت غرينتش

كنت أذهب إلى الجنازات الكبرى باكراً حريصاً على أن أكون في الصفوف الأولى، أملاً أن يكون المُصلِّي على الميت وصاحب الكلمة هو الدكتور يوسف؛ لأسمع منه كلمة تشفي العليل وتحرك همم الكبير والصغير، وحين ذهبت إلى جنازته لم أفقد الأمل، كنت متأكداً من وجوده، ظننت أنه سيكون هناك جسداً وروحاً، شعرت أنه سيصلي بنا عليه، ويكأنه سيقول نعياً فيه وكلمة في جمع محبيه، سيربط على أكتافنا لنكمل المسير بعده، توقعت أن أرى طلته البهية وأسعد ببسمته الندية، تلك الابتسامة التي لم تشِخ رغم مرور السنين، ولم تبهت رغم شدة المرض، كنت أنظر إلى قبره حيث مثواه، حيث بداية الحياة لا نهايتها، أنظر وأنا أنتظر كلمة منه، كلمة تكسر حدة الجمود الذي يملأ المكان، كلمة تربط على القلوب التي هدها تقلب الزمان وأعياها الفقد والحرمان، ولم لا؟ فهذا قبر يحمل عِلماً وعَلماً، تربية ودعوة، فقهاً وتاريخاً، تضحية وثورة:

يا قبر يوسف فيك فقه لم يزل *** زمن الوصول لمنتهاهُ طويلُ

هذا قبر ليس ككل القبور، هذا قبر متكلم، ناطق، مربٍّ، واعظ، تسمع منه النصائح، وترى على جنباته المواعظ والشعارات، وتستلهم منه الهمة والثبات، كما قال أحدهم على قبر ابن المبارك:

مررت بقبر ابن المبارك غدوة *** فأوسعني وعظاً وليس بناطق

كدت أن أصدق نفسي لولا أني أفقت من غفوة أملى وتحررت من سطوة جرحى، وأنا أردد خلف العلماء الداعين للشيخ بالرحمة: "آمين.. آمين".

لقد فقدَ العالم نصف العلم بموت القرضاوي، فقد العلمُ رأساً من رؤوسه، وعَلماً من أعلامه، وفقدت الأمة جبلاً شامخاً لطالما كان يمر معلماً كمر السحاب بالخير، أفل نجم من نجوم الدعوة رغم سطوع نوره في كل مكان! انهد جدار كبير في صرح الأمة صعب أن يقيمه ألف واحد حتى لو اتخذوا عليه أجراً.

رحل الشيخ جسداً وترك إرثاً يُحيي ذكراه لمئات السنين، رحل العلامة وترك في كل مِصرٍ وقُطر علامة، رحل الشاعر وترك الملايين يبكونه بأحرّ المشاعر، رحل المربي بعد أن بذر في تربة الأمة بذور مربين، وروى بعلمه تربة علماء مجددين، وتعهد نبت شباب صالحين، ولقد تلاقت دموع وزفرات وأنات المحبين للشيخ من كل مكان في نهر حب واحد؛ فكانت جنازته اجتماعاً للعالم الإسلامي الذي كان حريصاً دوماً على أن يجمع شمله ويلم عقده؛ فكان موته جامعاً كما كانت حياته جامعة:

وكانت في حياتك لي عظاتُ *** وأنت اليوم أوعظُ منك حياً

إن الشيخ أذهب عنا العجب من معادلة الواحد بألف؛ فقد كنا نتعجب ونحن نقرأ في التاريخ عن الرجل الذي يوزن بألف، ولكن بعدما رأينا  إنجازات وأعمال العلامة أيقنّا أن هناك أشخاصاً توزن أعمالهم بأعمال آلاف، ترجح همتهم همة ملايين، تؤثر كلماتهم ومواقفهم في المليارات.

ليس المجال مجال نعي ولا رثاء، وإن كان الراحل الشاعر الثائر الأديب المربي الداعية الفقيه الخطيب المعلم المجاهد يستحق دواوين شعر ومجلدات مقالات كي تفيه بعض حقه، ولكنني أكتب منادياً كما كان ينادي الشيخ؛ فيكفي أن تتعلم من الشيخ أن تكون داعياً للخير دالاً على كل فضيلة ومعروف، ننادي بما كان ينادي الشيخ بأن تتوحد الأمة خلف قضية واحدة، وأن تعتصم بالعقيدة ولسان حال كلٍ منّا: "سأظل معتصماً بحبل عقيدتي"، متمسكين بالدين في عصر الانحرافات والشبهات، ثابتين في الملمات، لا نقبل الضيم ولا ننحني للطغاة؛ فإما أن ننتصر وإما أن نرفع شعاره: "وأموت مبتسماً ليحيا ديني".

إنني أناشد المربين والآباء أن يتخذوا من سيرة الرجل نبراساً لتربية جيل متعلم، أن يجعلوا تاريخه وعلمه وهمته وقوداً لشحذ هممهم وعزائمهم، أن يخبروهم أن ما عندهم من إمكانات حالية لم تتوفر لجيل الشيخ رغم كل ما قدمه؛ فهذا النور الساطع الذي ملأ الدنيا وأنار للناس خرج من القرية والكُتاب، علموا أولادكم أن العلم يرفع، وأن الهمة تدفع، وأن الإخلاص للفكرة ينفع، علموهم أن يصبروا على مُرِّ التّعلم ليجنوا ثماره فيما بعد كما جنى الشيخ ثمار التعلم حباً وقرباً ومكانة وريادة، ابحثوا في المدارس والمعاهد والجامعات ومراكز التحفيظ عن يوسف جديد، يخرج من جب النسيان إلى قصر العلم والمعرفة؛ ليصبح عزيزاً في قومه تنتهي على يديه السنوات العجاف، ابحثوا عن شيخ جديد وعلاّمة فريد؛ يكون مهموماً بقضايا أمته كما كان الشيخ، ناشراً للعلم كما كان الدكتور، رافضاً للظلم أو الخنوع كما كان الأزهري الثائر، دالاً على الخير وداعياً للهدى كما كان الخطيب المفوه.

مات الشيخ جسداً، لكن ستظل روحه في كتبه التي تركها ورحل، ستظل بصمته في قلوب طلابه وتلاميذه؛ فهذا رجل طلابه علماء، لم يمت من ترك أثراً وخلف إرثاً تتناقله الأجيال، ترك حباً في القلوب، وغرس فكراً في العقول: 

حسبوك مت وأنت فينا شاهدُ *** نجلو بنهجك كل درب معتمِ

 إن الشيخ حي في ذاكرتنا، ضيف دائم في مكتباتنا، حاضر في كلامنا؛ ولذا فلا أقل من أن نحفر له في قلوبنا قبر حب، ونقيم له في صدورنا سرادق وفاء، ولسان حالنا ما قاله لغيره:

سيظل حبك في القلوب مُسطَّراً *** وسناك في الألبابِ واسمك في الفمِ

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد فؤاد
كاتب مصري
تحميل المزيد