فقدت الأمة الإسلامية الإثنين الماضي أحد أبرز علمائها وفقهائها ومجدديها في السنوات بل العقود الماضية؛ الشيخ العلامة يوسف القرضاوي، المفكر المجدد في حقول الفقه والعلم، والمجاهد في الميادين والساحات ضد الغزاة والطغاة. وعليه كان للشيخ العلامة حضور بارز في فلسطين دعماً للقضية العادلة والشعب المظلوم الذي يملك حق المقاومة بكل الوسائل المشروعة والإمكانات المتاحة، مقدماً تجسيداً حيّاً لمقولة "القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة الإسلامية".
بتفصيل أكثر، لا يمكن فصل مواقف الشيخ العلامة القرضاوي عن القضية الفلسطينية عن آرائه ومقاربته الفقهية والفكرية باعتباره أحد علماء بل أئمة العصر في الحقيقة.
كان العلامة القرضاوي مجدداً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فقهياً وفكرياً، وقد حمل على عاتقه أساساً هواجس واحتياجات الشباب والأجيال الصاعدة، كما الردّ على تحديات العصر وتحولاته المتلاحقة والمتسارعة.
من هذه الزاوية تحديداً كان العلامة الراحل ولا شك مجتهداً ومجدداً، حيث تمكن الإشارة إلى مساهماته البحثية والعلمية والأكاديمية الواسعة والمؤثرة، كما إنتاجه الغزير، وكتبه التي لامست وللدقة اجتهدت لتقديم أجوبة إسلامية لكافة تحديات العصر وأزماته. وثمة مقولات تلخص عبقرية وفكر العلامة الراحل منها على سبيل المثال:
"لا صراع عندنا بين الوحي والعقل أو بين الشريعة والحكمة أو بين الدين والعلم فالدين عندنا علم والعلم عندنا دين".
"أحب الخير للناس كل الناس لا أحمل عداوة ولا حقداً شخصياً لأحد فالناس جميعا إخوة لي إما في العقيدة وإما في الوطن وإما في الإنسانية كلنا شركاء في العبودية لله والبنوة لآدم وإنما أعادي من يعادي أمتي وأحارب من يحارب عقيدتي".
"تحقيق الحرية قبل تطبيق الشريعة الإسلامية؛ لأن الشريعة لا يمكن أن تطبق تطبيقاً سليماً في جو يفتقد فيه الناس الحرية".
"تزوير الانتخابات من الكبائر وكبت الحريات من أكبر الكبائر والحق دائماً أقوى من الباطل والظالمون انتصارهم مؤقت والدول والأنظمة التي تسخر إمكانياتها لتشويه الشرفاء ستنكشف أمام العالم مهما طال الزمن".
ومن هنا كان اهتمامه بفلسطين مرتبطاً أو منطلقاً إذن من انشغاله بالدين وحضوره في كافة مناحي الحياة، ولكن قبل شرح مساهماته وحضوره الفلسطيني الطاغي لا بد من الإشارة أولاً إلى مراحل تاريخية مهمة عاشتها القضية خلال القرن المنصرم استمرت كل واحدة منها نصف قرن تقريباً.
بدأت الأولى مع الغزو والاستعمار الصهيوني لفلسطين مطلع القرن الماضي وانتهت مع النكبة الأولى في 1948. في تلك المرحلة كان للعلماء ورجال الدين دور وحضور بارز في ساحات الجهاد ومقارعة المشروع الصهيوني الاستعماري والتحذير من مخاطره ليس فقط على فلسطين وإنما على العالمين العربي والإسلامي كذلك. وفي هذا الصدد أيضاً تمكن الإشارة على سبيل المثال لا الحصر إلى الشيخ عز الدين القسام والمفتي الشيخ أمين الحسيني. وعليه يمكن اعتبار العلامة القرضاوي امتداداً لهؤلاء العلماء والقادة العظام.
أما المرحلة الثانية فبدأت مع الثورة المعاصرة التي كانت أصلاً ردّاً من الجيل الجديد على النكبة، وشهدت عموماً تراجعاً ولو نسبياً في دور العلماء ورجال الدين لصالح قادة علمانيين وقوميين ويساريين دون إغفال البعد الديني للقضية الفلسطينية الذى لا يمكن تجاوزه أصلاً، وهو ما فهمه جيداً الشهيد ياسر عرفات لخلفيته الدينية وتلمسه المزاج الفلسطيني والعربي والإسلامي بشكل عام، وعلاقاته مع الأنظمة العربية المحافظة في السعودية والخليج العربي حتى بظل علاقاته الوثيقة مع الصين الشعبية والكتلة الشيوعية "الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية" الداعمة للقضية الفلسطينية.
تلك المرحلة انتهت نظرياً مع الخروج من بيروت في العام 1982 وعملياً مع اتفاق أوسلو واندلاع الانتفاضة الثانية نهاية القرن الماضي التي دشنت بداية مرحلة جديدة في تاريخ القضية الفلسطينية، كان للشيخ القرضاوي دور ومكان بارز فيها.
واكب الشيخ العلامة عن كثب تلك المرحلة وتطوراتها المتلاحقة والانفجار الشعبي الفلسطيني في وجه الاتفاق الكارثة خاصة مع ثورة الاتصالات، وحضوره العلني البارز ونشاطاته الفقهية والفكرية والإعلامية لدعم ومساندة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
وعى العلامة القرضاوي جيداً خطورة المرحلة وأهميتها عبر دعم وتأصيل عمليات المقاومة وتحديداً الاستشهادية منها، وعدم ترك الشعب الفلسطيني وحده في أحلك الظروف والمنعطفات التي مرت بها القضية، ولو مرّ اتفاق أوسلو بسلاسة واستسلم الفلسطينيون وقبلوا الخضوع له ولمفاعيله على الأرض لانتهت القضية تماماً وارتفع العلم الإسرائيلي في كافة الحواضر والعواصم العربية. علماً أن أوسلو كان حسب التصور الإسرائيلي بمثابة جسر العبور إلى العالمين العربي والإسلامي والشرق الأوسط الجديد الذى دعا إليه شيمون بيريز لتكون الهيمنة والقيادة الإقليمية فيه للدولة العبرية حسب تعبيره الحرفي بعد الحقبة المصرية في الخمسينيات والستينيات والسعودية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
كان الشيخ القرضاوي حاضراً إذن وبقوة في هذه المرحلة لمواكبة ومساندة ودعم الشعب الفلسطيني في إسقاط الاتفاق والمخطط الاستراتيجي للتوغل في صفوف الأمة عبر فعاليات لا تنتهي تضمنت ندوات ولقاءات وحملات لجمع التبرعات ورعاية تأسيس مؤسسة القدس الدولية بكل ما تحمله المدينة من مركزية ورمزية للقضية الفلسطينية والعالمين العربي والإسلامي.
رغم تقدمه في السن كان شيخنا العلامة حاضراً أيضاً في مواجهة صفقة القرن للرئيس السابق الأمريكي السابق دونالد ترامب ورفع الصوت عالياً والحشد العلمائي والشعبي ضدها باعتبارها وسيلة أخرى لتصفية القضية وتجاوزها بعد فشل اتفاق أوسلو في تحقيق ذلك.
الشيخ العلامة المجاهد، كان حاضراً دوماً كذلك في معارضة ورفض التطبيع العربي مع إسرائيل، باعتباره طعنة في خاصرة الشعب المجاهد وقضيته العادلة، ومحاولة لفرض الاستسلام والخضوع والهزيمة النفسية، وعليه بترويج فكرة تخلى أشقائه عنه.
مع اندلاع الثورات العربية الأصيلة كان العلامة القرضاوي حاضراً أيضاً في ميادينها وساحاتها لقيمة الحرية العالية والسامية عنده ورفضه العقائدي والفقهي للاستبداد كما لاقتناعه التام أن لا تحرر أبداً من الغزاة في وجود الطغاة المتواطئين والمتحالفين معهم.
رعاية الشيخ العلامة المجاهد لتأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين كانت تعبيراً أو تجسيداً أيضاً لمقولة القضية الفلسطينية، هي القضية المركزية للأمة الإسلامية مع الاهتمام الكبير بها ولكن دون أن يعنى هذا التغاضي عن أو تجاهل ثورات الشعوب العربية وقضاياها العادلة وربما أهم ما في تراث العلامة الشيخ المجاهد منعه استغلال القضية لتجميل الاستبداد أو تبييض صفحة الطغاة وهذه مساهمة فقهية وأخلاقية في القضية الفلسطينية لا يمكن إنكارها أو تجاهلها أو تجاوزها أيضاً .
وباختصار وتركيز تجسدت عبقرية الشيخ العلامة المجاهد ومناقبيته في تأصيله بعدم جواز القعود أو ترك الفلسطينيين وحدهم بل مساندتهم ودعمهم بكل ما في الاستطاعة دون يعني ذلك تجاهل أو السكوت عن قضايا تحرير الشعوب الأخرى حيث فهم الشيخ العبقري سابق عصره دائماً أن الشعوب الحرّة القادرة على تقريّر مصيرها بنفسها، تستطيع المساهمة في تحرير فلسطين وتمكين الشعب المقاوم من تقرير مصيره بنفسه. وبالتالي فتحرر الشعوب العربية والإسلامية خطوة مهمة وضرورية باتجاه تحرير فلسطين ضمن الحيّز الواسع والعميق في فكره واجتهاده لقضية الحرية ورفض الاستبداد والظلم.
في الأخير لا شك أن الشيخ العلامة محمد الغزالي كان أحد أئمة وعلماء وفقهاء ومجددي العصر، كما كان أستاذاً للشيخ العلامة القرضاوي قبل أن يتحول إلى تلميذ له بشهادته التاريخية. "القرضاوي من أئمة العصر لقد سبق سبقاً بعيداً الشيخ يوسف كان تلميذي أما الآن فأنا تلميذه".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.