أيام الإسلام في إيطاليا.. حينما ملأت المساجد والكتاتيب أنحاء روما وحكمها المسلمون

عربي بوست
تم النشر: 2022/09/29 الساعة 09:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/09/29 الساعة 09:25 بتوقيت غرينتش
أحد الكنائس الحالية الذي كان أصلها مسجد في العصر الإسلامي في صقلية / تويتر

من اللافت والغريب في تاريخ جزيرة صقلية الإسلامي أنه يكاد يشبه نظيره في الأندلس؛ فقد شهدت الفتح الإسلامي على يد القاضي أسد بن الفرات العالم والمجاهد الكبير الذي كلّفه الأمراء الأغالبة أمراء تونس التابعون للخلافة العباسية يومذاك في حدود عام 212هـ/838م، كما شهدت الجزيرة عصرها الذهبي أيام سيطرة الفاطميين ووزرائهم الكتاميين الصنهاجيين عليها بعد سقوط الأغالبة، وقد دام مجمل الحكم الإسلامي فيها لقرنين ونصف قبل أن يغلبهم النورمان (النورمانديون) القادمون من شمال فرنسا وإيطاليا في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، إلا أن وجود المسلمين بعد هذه الهزيمة قد استمر هنالك لقرن آخر ونصف تحت سيطرة النورمان الذين اتسم حكمهم في أول الأمر بالتسامح فتركوا للمسلمين حُرية إقامة شعائرهم على أن يخطبوا في الجُمع للخليفة العباسي البعيد الضعيف وألا يخطبوا للخليفة الموحّدي القريب القوي، وأن يدينوا بالولاء والتبعية السياسية للنورمان.

جزيرة صقلية
المعمار في صقلية

بيد أنه بمرور الزمن، وبضغط من الكنيسة والبابوية في روما كانت الأمور تتجه نحو السوء ثم الاضطهاد حتى انتفضت المقاومة وتمت الدعوة في الصلاة للأمراء الموحّدين في المغرب، ولكن بسبب ضعف الإمكانيات العسكرية وانعزال الجزيرة وعدم مجيء المدد من المسلمين في شمال إفريقيا اضطر المقاومون أن يلجأوا إلى الجبال النائية في قصة شبيهة بما حدث للأندلسيين بعد ذلك في جبال البشرّات في غرناطة، وكان قائد الثورة في صقلية رجل يسمى المرابط ابن عبّاد، ثم ما لبث أن انهزم المسلمون واضطر أغلبهم إلى الهجرة واللجوء إلى إخوانهم في الشمال الإفريقي والأندلس، وبعضهم انتقل إلى الجنوب الإيطالي وبقي من بقي منهم في صقلية مخفيًا إسلامه، لعل الأمور تتحسن مع الوقت.

على أن الجانب الآخر الحضاري غير السياسي في جزيرة صقلية كان يثير إعجاب الرحالة والمتابعين، فقد اشتُهرت بحركة علمية وأدبية دؤوبة منذ فترة مبكرة من دخول الإسلام إليها، فحين زار الرحالة العربي الشهير ابن حوقل صقلية في غضون القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي قبل ألف ومئة عام، دُهش لانتشار الحركة العلمية والثقافية فيها، والمستوى المتقدم في التربية والتعليم الإسلامي في هذه الجزيرة التي كانت من أهم الثغور الإسلامية في البحر المتوسط، فقد دُهش الرجلُ من كثرة المساجد في مدينة بلرم (بليرمو) وحدها، وكانت بليرمو يومئذ هي العاصمة ومجتمع أهل الأدب ومقصد طلاب العلم من سائر أنحاء جزيرة صقلية، فنشاط الحركة التعليمية فيها كان سبباً في الاستكثار من بناء المساجد، وانضاف إلى هذا ما قاله ابن حوقل من التكاثر بها، والتفاخر بهذا البناء والعمران، وأصبح غرض معظم بُناة المساجد "أن قال مسجد فلان لا غير"([1]). 

وبفضل انتشار هذه المساجد ومكاتب/كتاتيب القرآن الكريم الملحقة بها كثر المعلمون، حتى كان منهم في بليرمو وحدها ما لا يقل عن ثلاثمئة مُعلّم، وهذا عدد ضخم مقارنة بعدد السكان حينذاك، يُدلل على مقدار انتشار التعليم في هذه المدينة وحدها فما بالنا بباقي الجزيرة.

وبالإضافة إلى ذلك فقد كان يزاول مهنة التدريس كثير من أعيان البلاد ومشاهيرهم، ويتخرج في المدارس كثير من أولاد السراة والأغنياء، فضلاً عن من دونهم من أبناء الطبقات الاجتماعية الأخرى ([2]). وقد أطلعنا الرحالة ابن حوقل على صورة راقية من صور الكُتاب حين حدثنا عن واحد منها لم يكن ينفرد بالتعليم فيه معلم واحد بل يدرس فيه خمسة معلمين لهم من بينهم رئيس هو مدير الكُتَّاب ([3]). فقد عرفت صقلية الإسلامية التطور الإداري في المساجد والمدارس.

هذه الكثرة في عدد المعلمين والمساجد والمكاتب تشير إلى نشاط تعليمي واسع، ومهما تكن الأسباب التي أدت إلى كثرة المعلمين، فالذي لا شك فيه أن المعلم في هذا العصر كان شخصية عظيمة الأثر في حياة الناس، وكان أهل صقلية يرون المعلمين أنهم "أعيانهم ولُبابهم وفقهاؤهم وأرباب فتاويهم وعدولهم، وبهم عندهم يقوم الحلال والحرام وتعقد الأحكام وتنفذ الشهادات وهم الأدباء والخطباء" ([4]) كما يصف ابن حوقل.

جزيرة صقلية
من الآثار الإسلامية في صقلية

وقد رأى ابن حوقل أثناء زيارته مِن هؤلاء المعلمين مَن يتولى خطبة الجمعة، وعُرف منهم العدول الذين يشهدون على العقود والمواثيق ولا تكون سارية إلا بشهادتهم، وسمى من توصل من بينهم إلى منصب القضاء. فكان هؤلاء المعلمون هم الذين يوجهون الرأي العام الصقلي في أمور الدين والدنيا ([5]).

والحق أن الفصل الذي عقده العلامة المحقق الدكتور إحسان عباس في كتابه الماتع "العرب في صقلية"، وجعل عنوانه "هجرة الكُتب إلى صقلية" من أجمل ما قرأتُ عن رحلة الكتب وقصتها في هذه الجزيرة الغناء، وهو يُشير إلى التزام الصقليين بالتربية الإسلامية في هذا الثغر المضطرب القريب من البر الإيطالي، وأن الجزيرة كانت بمثابة القنطرة بين عالم الثقافة والعلوم في المشرق الإسلامي وبين نظيره في المغرب والأندلس رغم تأخر ورود آخر ما أنتجه المسلمون من ناحية العلوم والمعارف إليها، وهذا مفهوم لكونها جزيرة بعيدة في البحر المتوسط.

يقول إحسان عباس: "كانت الكتب التي يتداولها الطلبة والأساتذة مما يرد على الجزيرة من بلاد المشرق والأندلس والقيروان أو مما يؤلفه الأساتذة أنفسهم. وإذا استطعنا أن نعرف الكتب الواردة التي راجت في صقلية، أو أمثله منها على الأقل، كان كذلك خير معين لنا على تصور الثقافة السائدة في الجزيرة، وعلى مدى الامتزاج والتفاعل في تلك الثقافة. وقد كانت الكُتب ترحل كالناس في بطء وتتحرك من مكان إلى آخر في أناة، وربما كان انتقال كتاب من بلد إلى آخر حدثاً يستحق التاريخ. فليس بغريب أن يصرح ابن القطّاع الصقلي حين سأله المصريون عن كتاب "الصحاح" للجوهري بأن الكتاب لم يصل إليهم في صقلية ([6]).

ويحدثنا ابن رشيق القيرواني أن أول من أدخل كتاب "اليتيمة" في الأدب والتراجم والطبقات للأديب أبي منصور الثعالبي (ت 429هـ) إلى القيروان كان أبو الفضل محمد بن عبد الواحد البغدادي الدرامي سنة 439هـ ([7])، ولما رحل ابن البر الصقلي إلى المشرق كان كتاب اليتيمة أحد مروياته عن شيخه أبي محمد إسماعيل بن محمد النيسابوري، وعنه تلقاه في صقلية تلميذة ابن القطاع ([8]).

وقد دخلت "المدونة" أحد أشهر المؤلفات في الفقه المالكي عند فتح صقلية أو بُعيد ذلك بقليل، وكان كل نشاط الفقهاء يدور حولها اختصاراً وشرحاً، وبياناً لما فيها من غريب، ونسجاً على منوالها، وهذا أيضاً أمر مفهوم في ظل هيمنة المذهب المالكي على الغرب الإسلامي. وظل الأمر كذلك حتى آخر أيام العرب في صقلية. وبديهي أن الموطأ كان يدرس في صقلية أيضاً ويقوم بتدريسه محدثون أعلام، مثل الفقيه السمنطاري، وكان الطلبة لكثرة دُروج الاسم على أفواههم يلفظونه بغير الهمز. ويستعملون إلى جانبه كتاب "الملخِّص" وهو كتاب ألفه الفقيه القابسي ولخص فيه ما اتصل إسناده من حديث الموطأ، وكان الطلبة يسمونه الملخص بالفتح مع أن صاحبه سماه الملخص بالكسر ([9]). وألف ابن جعفر القصري كتاباً سماه "تجديد الإيمان وشرائع الإسلام" يشتمل على نيف وستين جزءاً وفيه بحث في المعجزات فدخل صقلية وقرأه الناس ([10]).

وفي القرن الخامس وردت إلى صقلية نسخة من كتاب "التقريب" وهو كتاب اختصر به البرالي البلنسي (البريلي بخط ابن بشكوال) كتاب المدونة وجمع فيه أقوال أصحاب مالك حتى قال فيه بعضهم: من أراد أن يكون فقيها من ليلته فعليه بكتاب البريلي، وقرأه عبد الحق شيخ فقهاء صقلية في عصره وأراد أن يشتريه فلم يتيسر له ثمنه، فباع حوائج من داره واشتراه ([11])، فلما عرف أهل صقلية ذلك زادت قيمة الكتاب في أعينهم، فأقبلوا عليه وتنافسوا في اقتنائه" ([12]).

وقد اشتُهر من أهل صقلية من الأدباء والشعراء كثير، منهم ابن حمديس عبد الجبار بن أبي بكر الصقلي المتوفى في عام 527هـ، وكان قد خرج من جزيرته صقلية إثر سقوطها في يد النورمان إلى الأندلس حيث انضم إلى بلاط المعتمد بن عباد، ثم انتقلت به الأسفار حتى توفي في جزيرة ميورقة، وكأنه أراد أن يعيش ويموت في جزيرة قريبة من جزيرته صقلية التي أحبها وكان دائم الشوق لها، فهو القائل فيها:

ولله أرضٌ إن عَدِمتم هواءها               فأهواؤكم في الأرض منثورةُ النظم

وعزّكم يفضي إلى الذل والنوى             من البَيْن ترمي الشمل منكم بما ترمي

فإنَّ بلاد الناس ليست بلادكم            ولا جارها والخِلْم كالجار والخِلم

وهو القائل أيضًا:

ذكرت صِقِليّةً والمنى … تهيّج للنفس أوطارها

فإن كنتُ أُخرجتُ مِن جنّة … فإني أُحدِّث أخبارها

إن مجرد تتبع تاريخ الإسلام وحضارته في صقلية من خلال تراثها العلمي والأدبي والديني، فضلاً عن التراث العمراني والزراعي الذي لا تزال الجزيرة تفتخر به حتى يومنا هذا بعد ألف عام من هزيمة المسلمين وخروجهم من هذه الجزيرة على يد النورمان، ليكشف لنا عن حضارة عظيمة لا تقل إبداعاً وبهاءً عن تلك التي تركها المسلمون في الأندلس، على أن تجربة المسلمين في صقلية لم تتجاوز القرون الثلاثة!

المصادر:

([1]) ميشيل أماري: المكتبة الصقلية ص7.

([2]) ابن حوقل: صورة الأرض ص127

([3]) ابن حوقل: صورة الأرض ص130

([4]) ابن حوقل: صورة الأرض 1/127.

([5]) إحسان عباس: العرب في صقلية ص90.

([6]) القفطي: إنباه الرواة 1/ 536.

([7]) ابن بسام: الذخيرة 4/68.

([8]) ابن ظافر، بدائع البداية 1/ 92.

([9]) ابن مكي: تثقيف اللسان نسخة الآستانة الباب 36.

([10]) ابن بشكوال: الصلة رقم 379.

([11]) ابن فرحون: الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب ص113.

([12]) إحسان عباس: العرب في صقلية ص92- 94.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد شعبان أيوب
باحث ومؤلف في التاريخ ودراسات الشرق الأوسط
باحث ومؤلف في التاريخ ودراسات الشرق الأوسط، له خمسة مؤلفات في التاريخ العباسي والعثماني والمملوكي وعشرات المقالات والأوراق البحثية، ويكتب في العديد من المواقع والدوريات
تحميل المزيد