الإمام يوسف القرضاوي.. كيف تجاوز تأثيره المؤسسات الرسمية والحركات السياسية؟

عدد القراءات
1,756
عربي بوست
تم النشر: 2022/09/27 الساعة 11:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/10/14 الساعة 08:48 بتوقيت غرينتش

على الرغم من كِبر سنه الذي قارب مائة عام بالتاريخ الهجري، فإن خبر وفاته يوم 30 صفر 1444 هجرية الموافق 26 سبتمبر/أيلول 2022 جاء مزلزلاً في أرجاء الأمة؛ حيث تداعت مكونات الأمة للتعزية فيه وذكر مناقبه، ولم تقتصر مشاعر الحزن والأسف على المجتمع العلمي والأكاديمي ولا على تيار فكري معين أو مدرسة تربوية ما، فالأمة كلها شعرت بوفاة الإمام القرضاوي، وهو أمر قلما يحدث في أمة تنازعتها التقسيمات السياسية، والحدود الجغرافية، والتبعية للمدارس والمؤسسات والجماعات، وهو ما جعل الإجماع على شخص ما أمراً غاية في الصعوبة، وهو ما تحقق مع الإمام القرضاوي -رحمة الله عليه.

لقد نشأ القرضاوي نشأة أزهرية كاملة، وتدرّج في مراحل التعليم الأزهري على النمط القديم، الذي يولي اهتماماً كبيراً بالتأسيس العلمي المتين المرتكز على التراث الأصيل، وظل معتزاً بانتمائه للأزهر الشريف طول عمره، وهو ما يظهر في التزامه بارتداء الزي الأزهري في غالب المحافل والملتقيات، وفوق هذا فقد حظي بعضوية أعلى المؤسسات الأزهرية مكانة، فقد كان عضواً بهيئة كبار العلماء، وعضواً بمجمع البحوث الإسلامية، وهي العضوية التي تخلى عنها عقب أحداث عام ٢٠١٣، فهو ابن الأزهر وواحد من كبار علمائه إن لم يكن أبرزهم وأكثرهم تأثيراً.

وأما عن انتمائه للإخوان المسلمين، فهو أمر معروف وتحدث عنه في مذكراته، وهو يعتبر المرجعية الشرعية للمنتمين لفكر الإخوان وتنظيماته المختلفة، وكتبه تُدرج ضمن مناهج التأسيس الشرعي والفكري في مختلف البلاد التي تحتضن تنظيمات تنتمي لذات المدرسة، ومن المهم هنا توضيح أن الفترة التي انضم فيها للإخوان المسلمين كانت حركة إسلامية عامة تضم نخبة المجتمع المصري، وقد تعرض للسجن أربع مرات بسبب انتمائه للإخوان، ولقد سعى كثيراً لإصلاح وتطوير التنظيم حركياً وفكرياً إلى أن استقال من العمل التنظيمي مع الإخوان في بدايات سبعينيات القرن الماضي، ورغم ابتعاده عن التنظيم إلا إنه ظل محل تقدير نادر من قادة الإخوان ومنتسبيهم، وهو ما جعلهم يعرضون عليه مراراً وتكراراً منصب المرشد العام للإخوان، وهو ما اعتذر عن عدم قبوله بشكل قاطع، وهي حالة نادرة الحدوث لمن يعلم طبيعة تفكير العقل التنظيمي في الجماعات الإسلامية عموماً ولدى الإخوان خصوصاً!

انطلق القرضاوي إلى دولة قطر بعد التضييق عليه في مصر، وكان من أعمدة تأسيس الدولة على الصعيد العلمي، فهو الذي أسس نواة جامعة قطر بإنشاء كلية التربية، وهو الذي استقطب كبار العلماء للتدريس في جامعتها، وهو الذي أطلق نهضة علمية وتربوية كبيرة فيها، كما جعلها منطلقاً للعديد من الأعمال العلمية والدعوية العالمية، ولعل برنامج الشريعة والحياة الذي ظل يقدمه على قناة الجزيرة القطرية كان أكثر برامج الفتوى تأثيراً في العالم، وهو وضع أفادت منه دولة قطر واستفاد منه الإمام، باعتباره منطلقاً ومظلة دعم متينة لأنشطته الرائدة في مختلف المجالات.

هذه المحددات الثلاثة كان بالإمكان أن تجعل الشيخ مقصوراً على أحدها متقولباً في قالبها، فهناك الشيوخ الأزهريون الذين عاشوا ولم يعرفوا غير أروقة الأزهر ولم يتعد تأثيرهم أبوابه، أو بعضهم التزم بكون الأزهر مؤسسة تابعة للدولة المصرية فالتزم بهذا الخط ولم يتجاوزه وبقي بصورة أو أخرى ملتزماً بدور وظيفي داخل الأزهر باعتباره مؤسسة الدولة. ولكنه لم يكن كذلك! 

رغم أنه لا يمكن لأحد أن ينزع عنه انتسابه للأزهر بل وكفايته لمشيخته، إلا أنه عارض مسار شيخ الأزهر السابق محمد سيد طنطاوي في قضية ربا البنوك، وعارض مسار شيخ الأزهر الإمام الطيب في اختياره السياسي عام ٢٠١٣، وفوق كل هذا فإنه لم يقتصر على طريقة التدريس الأزهرية المعتادة في إنتاجه العلمي والدعوي، ولكنه جعل غزارة علمه ومتانة تأسيسه وسيلة للاجتهاد والتطوير وتقديم العلوم بصورة تتناسب مع احتياجات العصر وأولوياته دون أي انحراف أو اختزال، وهو أمر لا يستطيعه إلا النوادر من علماء الأمة.

وكان من الممكن أن يكون شيخاً من شيوخ التنظيم، وما أكثرهم! فيقتصر على مخاطبة التنظيم وأبنائه بكتبه وبحوثه، وينحصر تركيزه في أولوياته التنظيم ويقضي عمره في دهاليزه، فيعادي من عادى التنظيم ويصادق من صادق التنظيم، وتصبح قضيته المركزية هي انتماءه للتنظيم، ولكنه لم يكن كذلك! فرغم كونه من أبناء دعوة الإخوان ولا يمكن لأحد أن ينفي ذلك، إلا إنه توجه بالنفع إلى كل المسلمين، وتفاعل مع كل قضايا الأمة حتى وإن تعارضت مع أولويات التنظيم وتوجهاته، وهو الذي أسس مختلف الهيئات العلمية و"العلمائية" التي تجاوزت فكرة التنظيمات الحركية والمدارس الفكرية، وذلك من أجل جمع كلمة المسلمين على القضايا المشتركة وتجاوز الخلافات الفكرية والفقهية التي تعايشت الأمة معها قروناً طويلة دون أن تتفتت أو تتشظَّى مثل ما نراه اليوم.

كما أن إقامته في قطر وحمله لجنسيتها، ووجاهته فيها ومكانته وحظوته لدى قادتها كان من الممكن أن تجعل منه سهماً في كنانة الدولة، أو أداة من أدواتها، فكم من شيخ أتاح له حاكم سعة وبسطة فتحول إلى شيخ للسلطان يسوّغ له قراراته، وينطق بلسانه وهو ما يسميه العلماء بـ "شيوخ السلطان"، ولكن الأمة تشهد أن القرضاوي لم يكن كذلك، حيث استطاع أن يوظف المساحة التي أتاحتها دولة قطر -مشكورة- في خدمة قضايا الأمة؛ لذا فنجد رأيه ثابتاً في عدد من القضايا التي ربما تخالف التوجهات السياسية للدولة، وهو أمر يُحمد للإمام في ثباته ويُحمد للحاكم في تفهمه واحتضانه لأهل العلم.

وفقاً لهذه الزاوية من النظر، نجد أن الإمام القرضاوي تجاوز في تأثيره المؤسسات الضخمة؛ مثل الأزهر الشريف، وتجاوز الحركات والتنظيمات مثل الإخوان، وتجاوز كونه مصرياً أو قطرياً، فالقرضاوي كان إماماً بحق على الصعيد العلمي والدعوي والحركي، وقد عاش للأمة الإسلامية وترك ميراثه لها، وهو ما يجعل من الصعب بل من المستحيل أن تدعي جهة ما أو مؤسسة معينة أنها الوارث الحصري للقرضاوي، لأن الحقيقة هي أن القرضاوي كان حراً لم ينتم إلا للإسلام والأمة الإسلامية.

 والإجابة على سؤال كيفية تجاوز تأثيره تلك الحدود تحتاج إلى بحث مفصل وليست مقالة موجزة للنشر العام، ولكن يمكن للكاتب أن يوضح بعض المعالم بصورة مختصرة دون أن يدعي الاستقصاء أو الحصر:

١. غزارة الإنتاج العلمي وجودته: فلقد ألّف القرضاوي في مختلف أبواب العلم، وأعماله الكاملة ستصدر قريباً في قرابة مائة مجلد، وهو إنتاج يتميز بالجودة العلمية، التي يعتبر افتقادها أحد السمات المنتشرة في مؤلفات العصر الحديث، كما أنه لم يعتمد على باحثين يكتبون عنه، كما هو حال عدد من المشايخ خاصة غزيري التأليف، بل كان يكتب بنفسه وينقح المسائل ويراجع، والمطلع على كتبه يمكنه أن يدرك أن كل كلمة هي وليدة ذات القلم والفكر.

٢. تنوع الإنتاج العلمي: فلقد كتب في مختلف العلوم ولم يقتصر على تخصص واحد، والعجيب أن إنتاجه في كل علم كان عميقاً لدرجة مذهلة، فله مؤلفات في العقيدة والفقه والتفسير والسُّنَّة والأخلاق والفكر وفقه الأسرة والمجتمع وفقه الدعوة والتاريخ والشعر والأدب، هذا غير كتبه وأعماله في القضايا المعاصرة.

٣.  الاهتمام بقضايا الأمة كلها: فلم يقتصر على قضية فلسطين وإن كانت هي الأبرز، بل نجد في كتاباته القديمة اهتماماً بقضايا ربما لم تشتهر إلا مؤخراً مثل أراكان (بورما) وتايلاند وتركستان وغيرها، كما أنه لم يقتصر في دعمه لقضايا الأمة على الحديث فقط بل إنه قام بحراك قوي على مختلف الأصعدة لخدمة قضايا الأمة.

٤. تكوين مدرسة علمية تراكم إنتاجها وطلابها على مدى السنين، فهو الذي لم ينقطع عن إمامة الناس في الصلوات وخطبة الجمعة والتدريس الجامعي والجلوس للإفتاء في لقاء أسبوعي على شاشات التلفاز وغيرها من الأنشطة التي جعلت لمدرسة الشيخ تأثيراً كبيرا على الصعيد الأكاديمي والعام.

٥. العمل المؤسسي: فرغم إنتاجه الضخم علمياً ودعوياً إلا أنه لم يقتصر على أنشطته الخاصة فقط، بل قام بتأسيس مختلف المؤسسات من أجل ضمان استدامة العمل، ولم يحرص على البقاء في رئاستها ولا إدارتها، بل استقال من غالبها بعد تمام بنائه والتأكد من قدرته على الاستمرار، فهو الذي أسس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وموقع إسلام أون لاين وغيرها من المؤسسات الضخمة التي خدمت الإسلام في شتى المجالات والأصعدة.

٦. التواصل القوي مع مختلف الهيئات، فهو لم يقتصر على رئاسة المؤسسات التي أسسها رغم ضخامتها، فهو عضو في عشرات المجامع الفقهية والهيئات الشرعية والمؤسسات العاملة للإسلام، ولم يكن يدخر وسعاً أو يبخل بعضوية أي مؤسسة تعمل من أجل خدمة الإسلام والمسلمين.

٧. السمات والمواهب الشخصية، فهو إنسان حر لم يقبل التبعية لتنظيم أو حكومة أو مؤسسة، وهو يقدّر قيمة الحرية وأهميتها في العمل للإسلام، كما أنه أوتي من المواهب التي ساعدته على ذلك من حافظة قوية وذكاء حاد ومهارات اجتماعية وقدرة على العمل الدؤوب دونما توقف، وغيرها من السمات التي يمكن معرفتها من استطلاع مسيرته العلمية والدعوية.

٨. عدم انخراطه في عداوة مع أحد، فإذا خالف أحداً في رأي نجده يحفظ له قدره ويحترمه، وكثيراً ما أساء إليه كثير ممن عارضوه وأكثرهم من أتباع المدرسة السلفية الذين وقعوا في الإمام بالسب إلا أنه لم ينزلق إلى معارك جانبية، ولعل موقفه مع الشيخ الحويني وحُسن استقباله له ووفادته في قطر رغم إساءة الحويني له كثيراً من أبرز الأمثلة على تسامحه ولين جانبه.

٩. المرونة والمراجعة المستمرة لمواقفه، فمأثور عنه رجوعه إلى الحق متى ظهر له، فكم من رأي رجع عنه بعدما تبيَّن له ما هو خير منه، ولم يجد غضاضة في ذلك، وهو تجرد علمي وأدب رفيع تميز به الإمام رحمه الله.

هذه النقاط التسع لم تكن إحصاء دقيقاً للأسباب التي جعلت تأثير الشيخ يتجاوز كل المؤسسات والهيئات والجماعات، ولكنها محاولة أولية رأيت أهمية نشرها لمناسبة وفاة الإمام، والحقيقة أن المصاب كبير والخطب جلل وخسارة الأمة كبيرة بفقد علم من أعلامها، أسأل الله أن يتقبله في الصالحين وأن يخلف الأمة فيه خيراً.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

إسلام هلال
باحث أكاديمي مهتم بالشريعة والقانون وعلم الاجتماع
باحث أكاديمي مهتم بالشريعة والقانون وعلم الاجتماع
تحميل المزيد