روايات الراحل أحمد خالد توفيق أكثر من مجرد كتابات خيالية زاحمت حتى وصلت إلى القمة؛ هي رؤية واسعة للمجتمع المصري واستشراف لمستقبله.
في رواية "يوتوبيا" توقع الروائي الراحل فيها تقسيم المجتمع المصري إلى عدة طبقات، أعلاها هي الطبقة التي تعيش حياة الترف والرفاهية، وأدناها هي الطبقة التي لا تعيش إلا بقدر ما تنجو كل يوم.
في "يوتوبيا" ترى المواطن الذي وُلد في بيئة توفر له كافة احتياجاته، الأساسية وغير الأساسية، وفيها كذلك المواطن الذي لا يجد قوت يومه إلا بالطرق التي نعرفها.
يقوم صلب الرواية على بحث الأغنياء عن وسيلة للتلذذ بالتعامل مع الفقراء، وكان توفيق واضحاً في نهاية الرواية حيث يقتل علاء، الشاب "اليوتوبي" الغني، جابر، الرجل الفقير المثقف الذي احتضنه وحماه وأعاده إلى موطنه بعد أن كاد يُقتل في أرض الفقراء.
لماذا THE BLIND DATE SHOW؟
ظهر مؤخراً برنامج مواعدة طريف، أعجب به المتابعون، وفكرته بسيطة، رجل يجلس إلى طاولة، تقابله على الجهة الأخرى امرأة لا تعرفه ولا يعرفها، وبينهما حاجز يحجب الرؤية، وبطريقة ما يتوسط البرنامج لتسهيل تعارفهما.
اعتبر البرنامج رائعاً، وظريفاً ومسلياً، إلى أن اتضح أنه ليس مجرد برنامج، بل هو أخطر من ذلك، حين بدأ صُناعه في استضافة أشخاص يعبرون بصورة حقيقية عن البيئة التي خرجوا منها، لنكتشف أننا أمام طائفة أوروبية تكونت على أرض مصر.
ترى الرجل الذي لا يُمانع في أن تكون لحبيبته أو زوجته صداقات خاصة من الجنس الآخر، ولا يُمانع في أن ترتدي البيكيني أو غيره من الثياب التي تفضح أكثر مما تستر، وأن يكون لها حرية مطلقة في فعل أي شيء تريده لطالما لم يؤثر على اهتمامها به.
وبتزايد الحلقات وتتابعها، بدأت الفوارق الثقافية التي ما هي إلا انعكاس لفوارق طبقية عميقة في الشروق. لست هنا لإصدار أحكام أخلاقية أو دينية، ولا أمتلك هذه السلطة بالأساس، لكنني أتساءل وأحاول أن أجيب عن سؤال مُلح: من هؤلاء؟
المدارس الأوروبية ونمط الحياة الأوروبي، هو صورة من مرآة ضخمة يقف أمامها ضيوف "THE BLIND DATE SHOW" وتُعرفنا بهم لكنها لا تُعرفهم بنا، ربما لأنهم لم يعيشوا ما نعيشه ولا يعرفون الظروف التي يمر بها المواطن المصري البسيط أو ما تبقى من أهل الطبقة المتوسطة.
لهذه الأسباب "يوتوبيا" خالد توفيق تتحقق، ليس لأنهم "سيتركون العاصمة القديمة تحترق ويذهبون إلى عاصمتهم الجديدة لكي لا تتأذى أعينهم بكل هذا الدمار"، لأن هذا المقطع أصلاً لم يرد في رواية "يوتوبيا"، لكن لأن ما حذر منه الراحل في روايته أقوى من مقطع وأدق من جملة بداخلها، وهدفها هو التحذير من أن يتفسخ المجتمع المصري بالفوارق الطبقية، إلى أن يصبح الغني أوروبياً والفقير مصرياً.
وللأسف، بدأت تلك الفوارق في البزوغ وظهرت إلى السطح، وما البرنامج إلا تجسيد واقعي لها.
غربنة مصر
كل شيء يُكتب يذهب إلى خانة المبالغة بالنسبة للبعض، والمشكلة الوحيدة في مصر أن الفوارق الطبقية شاسعة، ومع تطور التكنولوجيا والعلم، أصبح من الصعب إقناع الطبقات الأدنى بضرورة تحكيم عقولها فيما ترى.
يمكنك أن تتصفح أي تطبيق على مواقع التواصل، خاصة "تيك توك"، وسترى كيف هي الحياة بعيداً عن المناطق الشعبية المصرية البسيطة، التي تشم فيها رائحة الفول والطعمية، وتسمع صوت القرآن من المذياع في السابعة صباحاً، وتزاحم الناس على عربات الفول، وتضاربهم في المواصلات.
في الطبقات الأعلى يختلف الوضع، فلديهم أطيب وسائل العيش الرغيد، ويبحثون عن تفسيرات دينية تؤيد مواقفهم ولا تقض مضاعهم، وأنا لا ألومهم؛ لأن أحداً لم يجلس ويشرح لهم، والتفسيرات على كثرتها إلا أنها لا تنفي صدق ما تفهمه من الآيات، فالحلال بيِّن والحرام بين.
الفيمينست.. الشيطان الذي لا يُهزم
في المجتمع المصري حالياً، يمكنك أن تلاحظ كم الصراعات اليومية التي تنشأ بين الذكر والأنثى، والتي يصل مداها إلى تقديس "الفردية" ولعن كل مؤسسة اجتماعية تمس تلك القدسية بسوء.
وأكبر مثال على ذلك التوجه، أو التيار النسوي الجارف الذي تسلل إلى المجتمع المصري كحصان طروادة؛ أظهر نوايا حسنة تخص المرأة وتحريرها من القيود، لكنه لم يحرر أحداً، وسجن الجميع في زنزانة أكبر وأضخم؛ زنزانة الصراع كل يوم!
منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، وأدوار الرجل معروفة وأدوار المرأة كذلك، والفكرة أصلاً أن يتحول الأمر إلى بدهي وتمضي الحياة.
لكن ما قام به المجموعات النسوية هو أنهم صوروا للمرأة المصرية أن الرجل يستولي على أماكن تستحقها هي، ويتعامل معها بطريقة لابد أن تُعاديه رداً عليها.
وتحول الصراع من صراع حول "من يستوجب عليه فعل كذا؟" إلى صراع حول "لماذا لا تكون المرأة كالرجل أو أزيد منه إذا استطعنا؟".
من هنا اختلفت الأمور بشدة، ولم يتوقف هذا الصراع بين رجل وامرأة فحسب، بل شمل الأسرة كلها، لهذا تجد معظم الزيجات في مصر تفشل، ومعظم الخطبات تنتهي، وبعض العلاقات تُدمر، لأن الرجل يتحدث في أمور بديهية للغاية لكن المرأة تعتبرها أشياء لا تُرضيها ولا تُنصف كونها امرأة لها ذات مستقلة وأفكار لا يصح لزوجها أن يتدخل فيها.
وفي خضم صراعهم الكبير، يستخدمون بعض المنابر كأدوات لترسيخ الفكرة أكثر وأكثر، نساء يجلسن في منابر لينصحن غيرهن بترك الزوج الذي يمر بضائقة مالية، أو رجل يغار على زوجته من أعين الناس وكلامهم.
لغتكم العربية لا تعنينا
مع مرور الوقت، بدأ كل شيء في الطبقات العليا في المجتمع المصري يتخذ طابعاً غربياً بصفة كاملة، فتجد فئة لا يستهان بها تتحدث الإنجليزية طوال الوقت وفي أي مكان، حتى وإن كانت بعيدة عن طبيعة عملها أو دراستها، وتبدأ الفئة المذكورة في صبغ حياتها بلكنة إنجليزية للتمايز عن غيرهم.
وفي الأصل هي فكرة ليست جديدة، فهي إعادة صياغة بطريقة ألطف وأكثر تهذيباً من الطريقة القديمة التي تُسمى "الفرانكو" والتي مارسناها كلنا في وقت سابق، وهي طريقة ليست عربية وليست رقمية.
هي طريقة شنيعة للتعبير عن بعض الأمور، كان يُعتقد في بدايتها أن من لا يعرفها هو شخص جاهل أو لا يُجيد اختراع لغة تجمع ما بين الإنجليزية والأرقام لتُعطي مفاهيم بالعربية!
هناك طبقات في مصر تكره العربية، تزدريها وتحتقرها، وتعتبر أن التحدث بها أصبح "موضة قديمة" وبدلاً من ذلك يضعون بين كل مئة كلمة إنجليزية حرف عربي ليبدو أكثر تحضراً ورقياً ويظن الناس أنهم يواكبون الحداثة.
الطريقة الغربية في تمرير الأفكار
أصبحت مهارة تمرير الأفكار بغير معانيها مهارة جديدة في مصر، ولأن المجتمع المصري يحاول ما استطاع أن يحافظ على نسيجه القديم وأفكاره المنضبطة، فإن فكرة رمي الفكرة بمحملها الحقيقي وأفكارها الأصلية فكرة تحمل خطراً كبيراً على مبتدعها.
لذا يحاولون دائماً تهيئة الأمور، وتغيير بعض المعاني، واللعب على أوتار قد تبدو منطقية لتمرير فكرة أصلها خبيث، والفكرة تتضمن تغييراً كلياً وجزئياً في المجتمع المصري.
وبدلاً من أن يخبروك الحقيقة كما هي، يحاولون استخدام مصطلحات إنجليزية تبدو معقدة وتحتاج إلى الشرح، لأن الغالبية العظمى من تلك الأفكار تبدو منطقية أصلاً إذا تم شرحها بالإنجليزية بدلاً من العربية.
لأن اللغة العربية لا تعرف التمييع ولا المحاباة، هي لغة القرآن وأهله، ولغة الرجال الذين لم يتوانوا أبداً في الحق مهما كلفهم ذلك من عناء، لذا لابد أن يكون المتحدث عبقرياً والمُتلقي مجرد مستمع لا مُناقش.
بهذه الكيفية يمكن التحكم في نسق وعقول الشباب كيفما أرادوا، ولأنهم يختارون المتحدثين بعناية شديدة، وقد يكون بعضهم هم من رواد مواقع التواصل الاجتماعي الذين يحبهم الشباب ويثق بهم ويصدق أي شيء يقولونه.
ده هاني..
منذ سنة أو أكثر، ظهر مشهد من مسلسل تليفزيوني، كان بطله إياد نصار الممثل الأردني، وإذ به يدخل منزله فيجد زوجته تستقبله وبجوارها رجل آخر.
الرجل هو هاني، صديقها، ورفضت أن يمتعض أو يغضب زوجها -إياد نصار- من الحدث لأن هاني صديقها ولا يُشكل خطراً على الأسرة أو شرفها.
والمشهد في سياقات أخرى يبدو عادياً، إلى أن علق أحدهم عليه وقال إن المخرج أراد إظهار إياد نصار متوتراً بعد ما قالته له زوجته، وبدأ في الشك في نفسه وبدأ يراجع ما بدر منه لعله أخطأ في حقها أو بالغ ربما.
الصراع الطبقي في الملابس
الصراع الطبقي في مصر شمل كل شيء، حتى وصل إلى الملابس، وعلى فترات متباعدة يتم تداول مقاطع تُظهر سيدة مصرية ترتدي الحجاب يتم طردها من أحد الشواطئ أو الأماكن السياحية.
ونكتشف فيما بعد أن التعليمات التي تمنعها من "تلويث" المكان، والتي يوافق عليها ولا يمنعها حتى سكانه وضيوفه، إذ يظهر أشخاص يحاولون معاونة الأمن والمسؤولين في المكان على طردها وإخراجها منه.
والأمر يبدو واضحاً جلياً في أماكن السباحة، والتي نشأت بسببها قضية واضحة من أشهر القضايا في مصر: البيكيني والبوركيني.
والفكرة قائمة على أن المرأة التي ترتدي ملابس السباحة وفقاً للحجاب يقولون إنها ستلوث المياه إذا نزلت بها، على عكس الملابس الأخرى التي لن تُسبب نفس الضرر على المياه ومن يسبح فيها.
الراب
الراب أيضاً هو أحد أبرز مظاهر "الغربنة" الجارية حالياً في مصر، ليس لأن معظم من يتكلمون به أصبحوا على قمة الهرم؛ بل لأنه يُشكل وعي جيل لم يخرج إلى الدنيا بعد.
إن ثقافة الفوضى التي رسختها موسيقى الراب في عقول فئة كبيرة من الشباب المصري جعلتهم على طول الخط لا يتمتعون بقدر من الأدب والأخلاق المتعارف عليها.
وفي نفوس الجميع بدأت الظنون أنهم لا يُقهرون ويمكنهم فعل أي شيء دون عقاب، لدرجة أن هناك فيديو متناقلاً لشباب من مصر يكسرون زجاج السيارات ليلاً وتبدو ملامحهم كملامح "الجانجستا" أو هم تقليد لها، لا هو مصري ولا هو أصلها.
ومع الوقت تتحول الحالات الفردية إلى جماعات، والجماعات إلى مجتمع صغير، ثم يفرض المجتمع الصغير نفسه على المجتمع الأصلي ويبدأ الصراع المنطقي بينهما.
أهل تويتر
وتويتر هو الآخر مرآة حقيقية لمن يحاولون الانسلاخ عن الهوية المصرية التي اعتدنا عليها، أو هم لا يكذبون في كونهم لا يعرفون ما هي الهوية المصرية من الأساس.
فالتغريدات التي يتناقلها الناس ويسخرون من أصحابها، مثل فتاة لا تعرف فضل رمضان، ولا تعرف من هم صحابة رسول الله، والآخر الذي يفترض أن الدين قال مع أنه لم يقل.
هؤلاء لا يكذبون، ولا يحاولون لفت الانتباه لهم، بل هم فئة لا يستهان بها في مجتمعنا المصري، التي لا تعرف من الدين إلى ما يحاولون الاجتهاد لفهمهم، وبدلاً من أن يساعدهم الناس كونهم مثل الأوروبيين حديثي العهد بالإسلام، يسخرون منهم ويُعيدونهم إلى الخلف مئات بل آلاف الأميال.
من هم المصريون إذن؟
المصريون ببساطة هم الذين يدخلون البيوت من أبوابها، ولا يحتاجون إلى جلسات تعارف يقيمها برنامج أو وسيلة إعلامية، والمصريون هم الذين يشعرون بالغيرة على نسائهم ويحبون أن تكون نساؤهم أمناً وأماناً لهم فحسب، والذين لا يؤمنون بضرورة مصادقة الجنس الآخر لا على زوجاتهم ولا لزوجاتهم.
المصريون هم الذين يعرفون من الدين ما يمنعهم من تصديق أن مثل هذه الأفكار يُمكن تقبلها أو مقابلتها ببشاشة وابتسامة، والذين لا يعتبرون أن في الأمر مبالغة، والذين يخافون الله في ذويهم حتى قبل أنفسهم.
المصريون هم الذين يتزاحمون على وسائل المواصلات، وفي طابور العيش وعلى الطعمية، وهم الذين يسمعون صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد في السابعة صباحاً في الشارع البسيط، وهم الذين يتعلمون في مدارس لا تُوفر لهم القدر الكافي من التعليم ويذهبون فيما بعد إلى الدورات التعليمية ليُنفقوا فيها أضعاف ما أنفقوا في تعليمهم الأساسي.
ليسوا هاني، وليسوا الرجل الذين يستضيفونه في THE BLIND DATE SHOW؛ لهذا تتحقق"يوتوبيا" خالد توفيق، ولهذا فإن "غربنة" المجتمع المصري ستظل مستمرة على قدم وساق حتى تصل إلى مداها المتوقع منها في غضون عشر سنوات على الأكثر، وسيصبح المصري الغني أوروبياً أكثر، تماماً مثل علاء، والمصري المعدم، يُشبه جابر ورغبته في تغيير الواقع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.