تعجبني الطُّرفة والعبارة الجميلة في كتب المذكرات، خصوصاً لو كانت قصة قصيرة فيها عفوية، ما زلت أبحث عن مذكرات الفنان يوسف وهبي بعنوان "عشت ألف عام"، لكني قرأت عنه أنه عندما كان يعرض مع فرقة رمسيس رواية راسبوتين، في مدينة دمياط وبينما كان مندمجاً في مشاهد المسرحية العنيفة باللغة العربية الفصحى؛ وإذا بواحد من المتفرجين الدمايطة يقف معلناً تبرمه وقال: "ما تسيبك من النكد ده يا يوسف بك وغني لنا مونولوج فرايحي لشكوكو".
تردد الصحفي حمدي قنديل في تسمية سيرته بعنوان "عشت مرتين"، وعندما علم أن الفنان يوسف وهبي له مذكرات بعنوان "عشت ألف عام" حمد الله أنه لا تزال لديه بقية من تواضع ليحسب حياته بحياتين لا أكثر، ومذكرات حمدي قنديل تحفل بالمواقف الطريفة، من ضمنها عندما قدم قنديل حفل أم كلثوم الذي حضره الرئيس عبد الناصر ذات مرة؛ بسبب غياب مذيع الحفل، قدمها بعبارة واحدة "أيها السادة معكم أم كلثوم"، وخرج من المسرح، قابلته أم كلثوم وهي في طريقها لخشبة المسرح وهي تقول له: "ده كل اللي ربنا فتح بيه عليك".
وبكى حمدي قنديل وهو يقدم نشرة إخبارية فيها خبر وفاة الرئيس جمال عبد الناصر ومعه المذيع جلال معوض، من أجل مواكبة الحدث وروح النكتة أطلق عليهما زملاؤهما في التلفزيون ألقاباً للتندر: حمدي منديل وجلال معيط.
وعلى ذكر روح النكتة، أحب القراءة عن المازني وعن حياته وتعليقاته، فقد قال المازني عن جمال الدين الأفغاني: "ولما استقل السفينة من مصر، جمع له لفيف من تلاميذه والمعجبين به مبلغاً من المال يستعين به، وقدموه إليه. فأبى أن يتقبله، وشكرهم وقال لهم كلمته المشهورة "إني كالأسد لا أعدم قوتاً أينماً كنت"، ومن كلمات المازني الجميلة قوله: "لا أَدَع قلبي هذا يدمي من أجل أني فُجعت في أمل، أو خبت في سعي، فما قال أحد إن هذه الدنيا جنة عدن، ولو كانت لما وُعِدنا بجنة في الآخرة، وما زعم أحد أنه ليس علينا إلا أن نطلب أو نشتهي لننال، والنجاح محتمَل كالإخفاق، وكلاهما يجب أن يُقدَّر، والأمر بعد ذلك حظوظ وقِسَم وأرزاق"، وعندما يفسر حبه للروايات في كتاب العمر الذاهب الذي جمع فيه د.عبد الرحمن قائد نصوصاً حول القراءة والكتابة لدى المازني يقول: "أحب الروايات، لأني أحب الأحلام، ولقد التهمت في حداثتي ألف ليلة وليلة… على أن حبي للروايات راجع إلى سبب أعمق، ذلك أني أحب الحياة وأجهلها وأشتاق أن أعرفها، وليست الأحلام في مرد أمرها إلا أداة لسد النقص في حياة الإنسان، وملء الفراغ في تجاربه ومعرفته"، المازني من كتاب العمر الذاهب.
وهو كاتب متواضع لا يخجل من إعلان عدم فهمه لفلسفة التاريخ لهيجل، فقال: "هؤلاء الألمان يتفلسفون علينا بما لا نفهم، ماذا يريدون أن يقولوا، عجيب أمرهم والله، قرأت هيجل فخرحت منه كما دخلت، وقلت لنفسي: إما إني أنا حمار، وإما أن هذا الرجل لا يحسن العبارة عما في رأسه، ولكني أفهم غيره فلماذا لا أفهم عنه؟!".
ولا تتوقف روح السخرية عند ذلك، فقد حكى المازني مرة عن لص دخل بيته، وسرق ملابسه وسأله أخوه بعد ذلك عما كان خليقاً أن يصنع لو كان غير نائم، وسمع اللص، فكان جواب المازني الذي لا تردد فيه: كنت أتناوم! وأجمل تعليق يصف شخصية المازني عبارة وديع فلسطين عنه بأنه مهموم بالرزق: "كان واضحاً أن المازني مهموم بأسباب الرزق، وهو في سبيلها يرهق نفسه بالعمل في الصحافة وبالترجمة والتأليف والإذاعة، سواء في مصر أو في البلاد العربية. وهو على عجلة من أمره دائماً. وإذا همّ بالانصراف من مجلس أكثر من الإعتذارات، لأنه وراءه ارتباطات والتزامات" من كتاب وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره.
أما حكايات أمين نخلة الأدبية فجميلة؛ منها قصة عن أمير الشعراء أحمد شوقي حيث كان يتنزه في بيروت، ومعه صديقه محجوب ثابت، وأتى ذكر نقد العقاد الحاد لشعر شوقي، وقال محجوب: هنيئاً للعقاد! غضب شوقي، وهو بادي العجب: هنيئاً له! فرد محجوب: إي والله، هنيئاً له، فسوف يذكره التاريخ ويشتهر بأنه هذا الذي كان يكره شوقي! ففرح شوقي من حُسن جواب محجوب…
على أن زكي مبارك يرى أن السر في نبوغ أحمد شوقي هو تهالكه الفاضح على الموسيقى والغناء، ولولا السهرات الطروبة المجنونة التي يقضيها شوقي في بيئات اللهو والطرب والتمثيل والغناء لمات شيطانه الشعري منذ أزمان! وهي عبارة تُفهمنا سر ولع شوقي بصوت محمد عبد الوهاب.
ويحكي أمين نخلة أنه كان يتردد على قصر "يلدز"، وهو قصر السلطان عبد الحميد الثاني، فكان في كل مرة يزوره، لا يبرح خاطره هذا البيت، الذي يرثي تبدل الحال وزوال الملك،"في هذه الدار في هذا الرواق على .. هذا السرير رأيت الملك فانقرضا".
وحكايات تأمل مصير الحكام والسلاطين فيها من الشجن الكثير، رأيت مثلها عند الملك فيصل بن الحسين عندما زار تركيا وتذكر طفولته وهو يدخل على السلطان عبد الحميد الثاني في وجل وخوف شديد، ثم شارك في الثورة على الأتراك، وأصبح ملكا على العراق، ودخل نفس القصر بدون خوفه القديم.
وعندما قرأت مذكرات آغا خان تأملت في هوايات النبلاء والأثرياء؛ حيث يقول أغا خان، زعيم فرقة الإسماعيلية: "لكني بصراحة لا أعرف رياضة أجمل من صيد ابن آوي في حقول الأرز في بومباي في صباح يوم بارد من أيام الشتاء، عندما تكون الرائحة قوية، وتركض كلاب الصيد مسافات طويلة في أثر ابن آوي ماكر".
على أن السؤال الذي خطر في بالي: هل يهتم المشهور بحكايات الناس عنه؟ وجدت إجابة فتحي رضوان عنه، فهو يقول: "وقد علمتني الأيام أن المشهورين الذين يحسب الناس أنهم شبعوا من الشهرة، هم أحرص الناس على ما يوسع نطاق شهرتهم، ويجلب دواعيها، وأن كلمة نقد صغيرة أو عدم التفات عن قصد من بعض من لا قيمة لهم ولا شأن، يغيظهم وقد يفسد عليهم يوماً أو ليلة كاملة". وهو قول رجل مجرب تولى الوزارة في عهد الثورة وخبير بالناس، فقد عمل بالمحاماة وترافع في قضية قتلة السادات وعندما أطال في المرافعة قال له القاضي: "إحنا جايين نسمعك يا أستاذ فتحي"؛ بسبب بلاغة رضوان في فن المحاماة.
على أن فتحي رضوان قدم شهادة عن مجلس محمود شاكر، جديرة بالنقل: "وعرفت من حياة محمود شاكر، ومن دنياه، ومن صحبه الذين تربطهم به صلات طريفة في حاجة إلى قلم قصاص يصفها ويرويها، ويصف مناقشاتهم المحتدمة، وقراءاتهم الغنية ودعاباتهم الذكية، فلقد كان بيته ندوة متصلة لا تنفض، من أعضائها الثابتين: يحيى حقي إذا حضر من أوروبا، وعبد الرحمن بدوي، وحسين ذو الفقار صبري وغيرهم، ولم يكن من حظي أن أكون عضواً دائماً فيها، فقد كنت ألمّ بهم أحياناً فأراهم وأرى من العالم العربي كله ومن العالم الإسلامي على تراميه، شخصيات لا حصر لها، تتبياين بعضها عن بعض في الزي، والشواغل والمطامح، ولكنها تلتقي كلها عند محمود شاكر، تسمع له، وتقرأ عليه، وتتأثر به. وكلما كان من حظي أن أشهد جانباً من هذه الندوة، أحسست بسعادة غامرة، أن يبقى ركن في بلدي كهذا الركن ينقطع أصحابه للفكر والدرس والتحدث في أمور لا تجد من يسمع بها أو يعرف عنها شيئاً في مكان آخر".
ما أجمل هذه الشهادة والركن الرائع الذي حاول أن يصفه فتحي رضوان، وعبر عنه الكاتب محمود الربيعي في سيرته الذاتية في الخمسين عرفت طريقي، عندما حكى أنه أهدى إلى الأستاذ محمود شاكر سيرته وكتب له في الإهداء بيت المتنبي:
عليم بأسرار الديانات واللغى .. له خطرات تفضح الناس والكتابا
واتصل به محمود شاكر في الليل، وقال له: "لقد أنهيت السيرة واستمتعت بها"، وفرح الربيعي بهذا المدح كثيراً.
ومن الأمور التي تلفت نظري في قراءة المذكرات والسِّيَر حُسن الرد من الكاتب. قرأت عند وصف الفيلسوف سنتيانا نساء قريته في إسبانيا بأنهن يجلسن بجوار النوافذ يغازلن معارفهن من الرجال، ويمرون عليهن ثم يكفرن عن أسلوبهن في تزجية وقت الفراغ هذا بالاعتراف في الكنيسة فرد عليه الفيلسوف برتراند راسل بأن هذه حياة مملة فارغة سقيمة، فاعتدل سنتيانا وأجاب بحدة: "إنهن يقضين حياتهن في أعظم شيئين: الحب والدين" وتذكرت طلب كامل الشناوي من حسناء أن تلعنه عندما أيقظها لأن الفتنة نائمة ولعن الله من أيقظها، هذا الرجل غزله طريف، وعبارتها أن على الصيدليات أن تغلق لأن صوت شادية يشفي من الأمراض، والدماثة وحسن الرد فن فعندما قال رجل: أنت بستان، فرد صديقه: وأنت النهر الذي يُسقى منه البستان، وقرأت قصة قديمة عن شخص قد قام بتحية صديقه بقوله: "أحييك بصفتي الزر الأخير في الثوب الأخير لتابعك الأخير"، وكان الرد من صديقه: "سيدي، إن الزر الأخير على الحلة الأخيرة لتابعي الأخير، من الماس!"
وإذا كان حسن الرد فن فكذلك الهجاء مهارة، فقد انتبهت وأنا أقرأ عن خفايا العائلات الملكية المصرية، فقد وقفت على قصة طلاق الملك فاروق وزوجته فريدة، وعند الطلاق اتفق القصر على تربية بنات الملك فاروق، قالت زوجته فريدة ساعتها لفاروق: أرجو أن تراعي تربية البنات حتى لا يتحولن لبغايا مثل عماتهن.. في إشارة منها لسلوك سيدات العائلة المالكة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.