لم يعد يثير الأمر دهشتي. أصبح مألوفاً حد الملل. كلما بدأت رحلة البحث في دهاليز التاريخ بحثاً عن أشخاص صنعوه، أعثر على قصة مشتركة، تجمع بين كل المبدعين، أعثر عليها صدفة أو تجدني هي بطريقتها، تطفو على السطح وحدها ملحّة في طلبي، تلك المشتركة هي الرفض القاطع أو الانكار الذي يقابله أي مبدع يحاول إنتاج نوع جديد من الفن.
بدءاً من عبد الوهاب وتخلصه من التخت الشرقي في الألحان، ورفض سيد درويش للحن التركي. انتهاءً بفن الراب في آخر السنوات وما تعرض له نجومه من هجوم. ومروراً بكل من حاول تغيير موضع حجرة في خارطة الطريق التي رسمها من قبلها.
أكثر القصص حضوراً بذهني حالياً هي قصة الموسيقار هاني شنودة ونضاله لإثبات حسن طريقته في صنع الموسيقى، وشنودة ربما هو أكثر المبدعين تشابهاً مع الملحن منير مراد، خاصة من ناحية الدخول في صراع مع الذوق العام، والإصرار على إمكانية دمج الموسيقى الغربية واستخدام آلاتها في صنع موسيقى شرقية تطرب لها الآذان.
لكن أكثر ما يلفت انتباهي في قصة منير مراد، شقيق الفنانة ليلى مراد، على عكس أقرانه من المبدعين الذين لاقوا رفضاً شرساً في البداية يصبحون بعد ذلك أساتذة يرغب الآخرون في اتباع طريقتهم في صنع الفن. أي إن جميعهم في نقطة ما من القصة تصيبهم عدوى النجاح، إلا منير مراد، صاحب الإنتاج الغزير، عانده النجاح وأبى أن يطرق بابه.
منير مراد الذي عانده الفن في حياته وبعد مماته
منذ أيام أعلن مهرجان الإسكندرية لدول البحر المتوسط إلغاء تكريم الموسيقار منير مراد بسبب عدم الوثوق في تاريخ ميلاده وإن كان قد مر على ميلاده 100 عام فعلاً أم لا. عرفت الخبر عن طريق المنشورات المعارضة لإلغاء التكريم، والمدح الكبير الذي تلقاه هذا المنير مراد الذي لم أكن قد بحثت عنه لتلك اللحظة ولا أعرف عنه شيئاً، لكني من المعارضة شعرت أن شيئاً مهماً قد فاتني. فبدأت بالبحث.
والحقيقة أنني بعد هذا البحث أكاد أجزم أنه لا يوجد مصري وربما عربي كذلك لا يعرف من هو منير، إن لم يكن باسمه وصورته فبألحانه التي استمعنا لها جميعاً.
اذهب إلى "يوتيوب" واكتب في مربع البحث منير مراد، وستفاجأ بكمية الألحان التي سمعتها لها. من منا مثلاً لم يستمع لأغنية "أول مرة" للعندليب؟ أو "إن راح منك يا عين" لشادية؟ أي فتاة لم تتمايل على ألحان "يا دبلة الخطوبة" وهي تزف لحبيب أحلامها؟
إن لم تكن قد سمعت أياً من تلك الأغاني، فبالتأكيد صادفت أحد ألحانه في مكان ما، من الصعب أن تفلت من 3 آلاف لحن!
نشأته وتربيته
ولد منير في أسرة ربها عاشق للغناء. في بيت يتردد فيه أسماء مثل منيرة المهدية باستمرار واعتياد. في بيت زكي مراد أفندي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حين كان بيته ملاذاً مفتوحاً باستمرار لشباب المطربين، ومركز تدريب لمن سيكون فتى مصر الأول بعده بفترة قصيرة؛ محمد عبد الوهاب.
ولد عام 1922 لأسرة من أصول مغربية يهودية، لكن تم إعلان إسلامه هو وعائلته بعدما تزوجت ليلى مراد من أنور وجدي بعام واحد. وبعدها بدأ بتغيير اسمه على تترات الأعمال من موريس إلى مراد. حيث عاش طفولته في العباسية بشارع الجنزوري بين إخوته مراد وإبراهيم وليلى وملك.
ومع والدته العاشقة والعازفة السيدة جميلة إبراهيم، ابنة الموظف المحترم الذي عشق صوت زكي أفندي فرحب بأن يهديه ابنته.
تعددت الأقاويل حول نجاحه أو فشله الدراسي، لكن أكثرها مصداقية هو ما قاله منير بنفسه في لقاء إذاعي عن حصوله على البكالوريا من الكلية الفرنسية. ثم بدأ رحلة بحثه عن عمل واندماجه في الوسط الفني، حيث بدأ بدراسة الموسيقى في المعهد السكندري على يد المدرس الإيطالي (ماريو زينو). ثم بدء في العمل كعامل كلاكيت ومساعد مخرج مع المخرج اليهودي المعروف توجو مزراحي، بين عامي 1941 و1956. وعمل كذلك مع أنور وجدي في 24 فيلماً مثل ليلى بنت المدارس، ليلى بنت الريف، ليلى في الظلام، ليلى بنت الأغنياء.
ملحناً، عازفاً، ممثلاً، مؤلفاً، راقصاً، ومقلداً.. هكذا كان. فاستحق عن جدارة لقب الفنان الشامل. ولكن مع ذلك مثيرة للحيرة ظاهرة عدم التقدير والطمس المتعمد لتاريخ هذا المبدع، حيث حتى وقت قريب جداً هو تاريخ صدور كتاب التياترجي لم يكن ثمة أي مادة مجمعة عن تاريخ هذا المبدع أو أرشيف لأعماله بناءً على ما كتبه الأستاذ وسام الدويك مؤلف الكتاب.
مفهوم أنه قدم نوعاً مختلفاً من الفن، لكن كل اختلاف تم تقديره في مرحلة ما، فلماذا لم يتم تقدير فنان صنع تغييراً محورياً في أغنية المذهب والثلاث كوبليهات وأدخل الأغنية ذات المقدمة القصيرة التي تصيب هدفها مباشرة، وتضع المستمع في صلب الموضوع؟!
حياته الاجتماعية والشخصية
تزوج مراد 3 مرات؛ أولها من فتاة يهودية تدعى رينيه، تم الاختلاف حول جنسيتها إن كانت إيطالية أو أمريكية، وأنجب منها ابنه زكي الذي سماه على اسم والده. لكنها طلقت منه بعد أن أشهر إسلامه واصطحبت زكي إلى خارج البلاد.
ثم بعد ذلك تزوج من الفنانة سهير البابلي، وفي ذلك تقول سهير في واحد من الحوارات: "إنه إنسان بالمعنى الصحيح الذي تحمله الكلمة. وقد تزوجته وأنا ابنة 17 عاماً، وكان ذلك من 10 سنوات، فكان زوجاً، وأخاً، وأباً وأستاذاً، إذ كان يوجهني ويرشدني في كل مراحل حياتي الفنية، وللحقيقة فقد استفدت من وجوده في حياتي كثيراً، ولا أستطيع أن أنكر فضله عليّ".
عانى منير من الوحدة الشديدة بعد طلاقه من سهير ووفاة صديق عمره ورفيق رحلاته عبد الحليم، وقال منير نفسه في واحد من الحوارات: "الوحدة بالنسبة لي مؤلمة وفظيعة، وأنا طول عمري أعيش وسط الناس وأحب الحياة العائلية".
لكن يشاء القدر ألا يترك هذا القلب الرقيق يفنى وحيداً، فيقابل ميرفت جودة في واحدة من المصالح الحكومية، حيث تعثرت في إنهاء أوراق سفرها لزيارة أختها في لندن، فيقوم بمساعدتها ويلتقيان مجدداً في المطار، ثم يلتقيان لمرة لا فراق بعدها عند عودتهما إلى مصر، فيقرران الزواج.
وتحيي حفل زواجهما شريفة فاضل في ملهاها الليلي، فلا يحضر أحد بناءً على رغبة منير الذي كان حريصاً ألا يعلم أحد بأمر حفل الزفاف سوى في مغرب اليوم نفسه. فتظل ميرفت رفيقته حتى يودع العالم وذهنه مشغول ببعض الألحان التي يجهزها لأغانٍ جديدة لتكون عودة بعد غياب لأخته ليلى، لكن يفارقنا قبل أن يتمها بأزمة قلبية في صباح 17 أكتوبر/تشرين الأول 1981، تاركاً بعض الألحان غير المكتملة المكتوبة على قصاصة ورقية وتراث لا يفنى من الفن والرقة والجمال.
أعطوني إمكانيات عبد الوهاب سنة؛ وشوفوني هاعمل ايه؟!
سئل منير مراد: ألا يمكن تطوير الموسيقى والغناء؟
قال: الغناء لن يتغير إطلاقاً.. إنما الأصوات تتجدد.. لأننا بلد طرب.. الشرقي يطرب فقط.. أما الغربي فإنه يسمع وينسجم.. ولهذا لا يمكن تغيير طريقتنا. أما الموسيقى فلا يمكن أن يطورها إلا الناس الكبار في هذه المهنة؛ لأن الشباب المتعلم المثقف لن يطور موسيقانا أو أغانينا بطريقته الخفيفة.
سئل: أنت متقدرش تطور؟
قال: علشان أنا أطور موسيقى للإذاعة لا بد من تغيير الطريقة كلها. أولاً: ما تربطشي فن بروتين.
ثانياً: خرجني من المذهب والثلاثة كوبليه.
ثالثاً: غير لي الـ14 عازفاً.
رابعاً: ما تقيدنيش بالتسجيل في أسبوع.
فسئل: اشمعنى الناس الكبار يقدروا يطوروا من غير شروط؟
منير: لأن واحد زي عبد الوهاب يقدر يستمر أربع خمس سنين في عمل.. لأنه يقدر ياكل، ولأن محدش هيحاسبه.. طب يدوني إمكانيات عبد الوهاب سنة ويشوفوني هعمل إيه؟!
- جزء من حوار تم نشره في مجلة "الكواكب" عام 1966.
بالنسبة لي يعبر هذا الحوار القصير عن فكر ومعاناة مراد بالكامل، وربما يتخطاه لمعاناة أي مبدع أو مجدد، وهو الصراع بين الحصول على لقمة العيش وزاد المعيشة والعمل غير المأجور على الحلم والطموح. لكن المثير تماماً للدهشة والإعجاب في حياة هذا الفنان العبقري هو الإنتاج الغزير الذي استطاع إنجازه رغم كل هذه المعوقات. فنان استطاع إنتاج أكثر من 30 آلاف لحن واسكتشات وعروض راقصة وتأليف أفلام ومونولوجات.
فنان كهذا لا يمكن فهم أبداً الرغبة في طمس وتهميش دوره وتدمير أرشيفه على حساب ترميز وتركيز بؤرة الضوء على آخرين، يمكننا الجزم بوجود فرق شاسع بينهم وبينه من حيث الإبداع وغزارة الإنتاج!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.