في السادس عشر من سبتمبر/أيلول الجاري، استيقظ العالم على خبر رحيل الشابة الإيرانية مهسا أميني، صاحبة الواحد والعشرين عاماً، بمركز شرطة الحجاب، بعد أن أوقفتها الشرطة المسؤولة عن مراقبة ملابس النساء في إيران، وألقت القبض عليها لعدم التزامها بالحجاب الإسلامي، ومن ثم تم حجزها في مركز الشرطة، وبعد ذلك انتقلت إلى المستشفى في حالة خطرة؛ نظراً لإصابتها بعدة إصابات أودت بحياتها في النهاية.
خبر صادم من الأخبار العالمية والمحلية التي تُستخدم فيها القوة كعقاب ورادع عن ارتكاب بعض الأشخاص لأفعال أو اختيار نظام حياة معين، لا يوافق رأي وهوى البعض الآخر.
في الواقع لا يقتصر العنف بدافع الوصاية الأخلاقية على العنف الحكومي أو الرسمي كما حدث مع أميني، ولكن ذلك العنف يمارس بصورة شبه يومية في كل البلدان العربية، من المواصلات إلى المدارس إلى الجامعات، وفي الشوارع أيضاً بالتأكيد.
أعادتني حادثة مهسا أميني إلى الكثير من الوقائع الشخصية والعامة التي حضرت إلى ذهني بصورة متتالية، صور بها الكثير من الوصاية الأخلاقية التي في الواقع ما هي إلا صورة مبطنة من الإعجاب بالنفس، وشعور من أمامك بكونه أفضل منك وأكثر منك انضباطاً أخلاقياً، والأدهى باعتقاده أنه أكثر منك تمسكاً بتعاليم الله.
قبل الخامسة عشرة من عمري بدأت في سلسلة من التدين الشكلي، التي جعلتني أرتدي النقاب قبل أن أتم الخامسة عشر، أما عن أسباب الاندفاع إلى ذلك فهو ليس محل نقاشنا الآن، أما ما أود الحديث عنه فهو الباب الواسع الذي دلفت منه عند بداية هذا التدين.
لم أرتدِ مطلقاً ملابس سوداء مثل معظم المنتقبات في حينها- أعلم أن الوضع تغير الآن بعض الشيء وأن هناك الكثير من المنتقبات يرتدين ألواناً مبهجة وتعمّ بالحياة ولكن الحديث عن مدة تزيد عن خمسة عشر عاماً الآن- كنت أكتفي بملابس فضفاضة بألوان مناسبة لطفلة ما زالت بداخلي، هل تعتقد عزيزي القارئ أن مقيمي حدود الأخلاق في مجتمعنا رأوا مني التزاماً بشرع الله، حسب عقيدتهم بأن النقاب فرض؟ أو أنهم هللوا لي بأني طفلة تسير في طريق الله بحسب معتقدهم؟ لا، لم يروا مني سوى عدم التزامي بألوان منضبطة تليق بالتزامي بالزي الإسلامي، وهذا خطأ يجب تقويمه بالطبع.
مشهد آخر أود أن أحكيه حدث لصديقتي المقربة، التي كانت ترتدي النقاب في أولى سنواتها بإحدى الكليات المسماة بكليات القمة في مصر، تسير صديقتي بين أروقة الكلية التي طالما حلمت بدخولها بقلب نابض مفعم بالحياة، لتقابلها في الاتجاه المقابل فتاة أخرى منتقبة، تتحدث إلى صديقتها: "بتفكرني بنفسي أيام ما كنت متبرجة"، وبالطبع كانت المتبرجة هي صديقتي المنتقبة التي ترتدي ملابس واسعة، ولكنها لا تلتزم باللون الأسود.
هناك واقعة أخرى تأثرتُ بها كثيراً منذ عدة سنوات، عندما نامت امرأة على كتف زوجها في أحد المواصلات العامة من شدة تعبها، فانهالت التعليقات السلبية عليها وعلى زوجها، إلى أن وصلت للاعتداء اللفظي عليهما.
بالطبع تاريخ التعديات بسبب عدم التزام البعض بما يراه آخرون ممتد وشهير، ويبدأ من العنف اللفظي كما في الحالات المذكورة، مروراً بكل أحداث العنف الفعلي، التي يمكن أن تبدأ بأن تقص امرأة محجبة شعر أخرى غير محجبة تجاورها في إحدى وسائل المواصلات العامة، كما حدث عدة مرات سابقة في مصر، أو أن تصل لأن الدولة نفسها تفرض بعض الوصاية لأخلاقية كإيران.
المشكلة الأساسية في الوصاية الأخلاقية التي يقوم بها البعض تجاه البعض الآخر، هي أنها طريقة إن بدأتها لن تنتهي منها، فهناك دائماً من يرى نفسه أفضل لأن سقف المزايدة ممتد وطويل ولا يمكن أن تضع حداً له، فالمحجبة ترى نفسها أفضل من غير المحجبة، فتمارس عليها وصية أخلاقية، والمرتدية للنقاب ترى نفسها أفضل من المحجبة، فتمارس عليها وصية أخلاقية، والتي ترتدي السواد ترى نفسها أفضل ممن ترتدي ملابس ملونة، فتمارس عليها وصية أخلاقية، ومن لديه مفهوم محدد عن المروءة يمنع الزوج من إمساك يد زوجته في الشارع، سيهاجم من لا يعتقد بذلك التعريف للمروءة، إننا إن اتبعنا طريقة الوصاية الأخلاقية فإننا سندخل إلى دائرة مفرغة واسعة للغاية من المزايدة التي لا تنتهي، وتصل إلى حد العنف المجتمعي.
أسباب انتشار الوصاية الأخلاقية بين أفراد الشعوب
إن أمعنا النظر في الأسباب التي تجعلني أمارس وصية أخلاقية على غيري، وأن يمارس غيري وصية أخلاقية على غيره، فإنني يمكنني أن أنجزها في عدة أسباب وهي:
1- التربية
أعتقد أن الأمر يعود لتربية النشء، فتربية الطفل أن هناك طريقاً واحداً إلى الله، وأنه لا سبيل إلى الوصول إلى رضا الله إلا بالسير في ذلك الطريق بحذافيره، هو بداية الطريق لتشدد وفرض المعتقدات بالقوة على الناس، كما أن التربية القائمة بشكل كبير على الترهيب والتخويف من الله تستدعي اللجوء للعنف بالطبع.
2- المعتقدات الخاطئة التي تُنسب للدين
في العقود الأخيرة ظهرت العديد من موجات الحديث عن الدين بطرق لا يقبلها عقل أو منطق، بداية من بعض التفسيرات والفتاوى التي تقر بضرورة محاربة المنكر بالقوة، بداية من قوة اللفظ إلى قوة السلاح إن لزم الأمر، لكن تلك الفتاوى غفلت كثيراً عن تعريف المنكر، وعن الشخص المؤهل لتحديد ما هو المنكر، وعن الطرق السلمية لمعالجة ذلك المنكر، غفلت عن كل ذلك لكنها أقرت باستخدام القوة.
3- النظم السياسية القمعية
لا يمكن لأحد أن يبعد النظام القمعي لبعض الدول عن القمع الذي يمارسه أفراد الشعوب تجاه بعضهم البعض. فشعور المواطنين بالقمع الشديد وعدم السماح لهم بحرية الرأي أو التعبير عن أنفسهم ومعتقداتهم بأمان، هو باب لأن يتوجه ذلك الضغط إلى الأفراد.
4- غياب الرداع القانوني
تخيل أن يفرض قانون بالحبس أو الغرامة المالية على من يرتكب أي وصية أخلاقية على غيره، حتى وإن كانت لفظية، هنا فقط تحقق القوانين الهدف الرئيسي من سَنها، بأن تنظم شكل الحياة بين الناس، ويتمكن كل فرد في المجتمع من ممارسة أفكاره ومعتقداته بحرية تامة، مع عدم هدم معتقدات وآراء الآخرين.
5- الخطاب الديني
غياب الخطاب الديني الصحيح الذي يدعو الناس إلى معرفة أن الطرق إلى الله متفاوتة وعديدة، وفي النهاية تصب كلها في مصلحة الفرد لمعرفة طريقه إلى الله، وأنه لا دخل لك بما يعتقده غيرك أو ينفذه من معتقدات، حتى وإن كان اعتقاد غيرك هو عدم الإيمان بالله.
بالنهاية أود توضيح نقطتين فقط:
1- الأمثلة المذكورة في المقال لا تتحفز ضد اتجاه فكري أو ديني محدد، لكنها الحياة التي جعلتني أنقل لك ما عشته بنفسي فلا تعتقد أني أهاجم أو أعمم الكلام عن فرقة محددة، فهذا غير صحيح.
2- قد أتفق مع بعض الأفكار المذكورة وقد اختلف مع بعضها، مثلاً أنا أرى أن الحجاب فرض، ولكنني أرى أيضاً أن المروءة تفرض على زوجي أن يتركني أنام على كتفه من التعب، وسواء كنت موافقاً لرأيي أم لا، فإنني أرفض تماماً الوصاية الأخلاقية على أي مما يعتقده أي إنسان في العالم، سواء من الأفراد أو الحكومات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.