كانت لي زميلة مسحورة بهشام سليم، تحديداً دوره في مسرحية "شارع محمد علي"، هكذا كانت تتأمل ذلك الشاب الوسيم جداً، الذي يمثل بهدوء لافت وثقة عارمة في النفس، مع وجه جميل وابتسامة كانت تصفها لي وتخبرني أنها لن تتزوج إلا شخصاً يشبه ذلك الرجل الوسيم، لكنني دائماً ما كنت أرى أن أمر هذا الرجل أبعد من مجرد وسامته أو تمثيله الهادئ الرصين.
هكذا قتله أول مشهد في حياته
"ماما إنتي بتولعي سيجارة من سيجارة! يعني السجاير بتروق أعصاب الواحد لما يكون متنرفز؟". كانت هذه هي الجملة من دوره الأول في فيلم إمبراطورية ميم، بمثابة بداية النهاية، في هذا المشهد ترد فاتن حمامة لتقول: "السجاير مفيهاش فايدة، دي عادة سيئة الواحد بيتعود عليها"، لكنه يرد سريعاً: "قد كده لما الواحد يتعود عليها مايقدرش يسيبها؟"، في نهاية المشهد سألته بوضوح: "عاوز توصل لإيه بالظبط؟".
لم يدر الصغير وقتها الأبعاد التي يمكن أن يصل إليها أبداً من وراء تلك العادة التي بدأها فعلاً أثناء تصوير فيلمه الأول: "بدأت أدخن في فيلم إمبراطورية ميم، كان دور لذيذ وسن الشباب بيعملوا فيه الحاجات دي، كنت شقي أوي وكنت عايش حياتي جميل أوي، شربت سجاير وعملت عودة الابن الضال وبعدها بدأت أدخن سيجار"، ربما كان الراحل صالح سليم يشعر بقلب "أب خبير" أن صغيره مقبل على هذا كله، لهذا استغرقت سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة وقتاً طويلاً لتقنعه بظهور هشام في الفيلم: "مكانش شايف إني المفروض أمثل".
يعتقد البعض أن هذا هو السبب في استبعاد اسم "صالح" من اسم هشام الذي استعان باسم جده، ليصبح اسمه الفني هشام سليم، لكنّ لهذا سراً حكاه هشام نفسه قائلاً: "لما بدأت أشتغل أبويا قالي ماتستخدمش اسمي في حاجة، لو نجحت إوعى تجيب سيرتي، ولو فشلت إوعى تجيب سيرتي، النجاح والفشل إنت اللي هاتعمله مش أنا".
أراد هشام أن يخوض كل التجارب، الجيد منها والسيئ، هكذا قام بتجربة المخدرات لكنه لم يستمر في الأمر طويلاً، اعترف بهذا في لقاء سابق له مع الإعلامية سمر يسري حين قال: "أنا جربت المخدرات مرة واحدة، لما لقيتها قدامي، كنت عاوز أعرف هي إيه، لقيتها سيئة جداً"، مؤكداً أنها لم تتكرر، لكنّ هذا لم يكن الحال مع التدخين الذي لازمه حتى أفقده حياته.
خالد سليم شقيقه "أبو الخلد" إيده تقيله، كنا طول الوقت بنضرب بعض، كنا عيال شقاي جداً ونعمل أي حاجة في أي حد، شبه القطط في سلم المطبخ، ضرب وصريخ طول الوقت، أخويا اخترع حاجة مرة، عملنا قراطيس ورق وفي آخرها دبوس، كنا بنشن على القطط واحنا أطفال، مكنش عندنا قلب، لغاية لما أمي وأبويا نازلين يسهروا، خمس دقايق سمعنا المفتاح، أول ما دخل قالي إنت عملت حاجة؟ "القطط اشتكت منكم، هو في حد في العمارة غيركم يعمل حاجة زي دي؟". فبقينا نعملها في الكلاب.
رحلته للبحث عن "بناته".. هل ضرب زوجته حقاً؟
عقب نجاحات عديدة، توقف هشام سليم عن التمثيل بناءً على رغبة زوجته، هكذا انقطع عن كل شيء، في المجال الفني، لكنه وبمجرد الإعلان عن وقوع الطلاق عاد للعمل فوراً مرة أخرى: "كانت رغبة مراتي إني ما أمثلش لكن كان لازم أرجع لقواعدي". لكن الطلاق لم يقع بسلام، في الواقع انتهت زيجته الأولى من والدة بناته الثلاث، السيدة ميرفت، بمحضر في قسم قصر النيل، بعدما قام سليم بضربها، لم يصرح بشكل واضح عن أسباب الطلاق لكنه راح يذكرها منفصلة، مؤكداً أنها من أخبرته: "أنا مش عاوزاك"، أسباب من بينها الغيرة الشديدة، تخطي حدود الاحترام بين الطرفين، عصبية هشام نفسه، لكن ما لفتني تلك الرسالة التي وجهها لبناته وقتها، وكن صغيرات بعد: "أنا مديت إيدي عليها وده غلط، وأي راجل يضرب ست دي غلط مش جدعنة، لكن في سبب أحتفظ بيه لنفسي، بناتي لما يكبروا هايفهموا، النهاردة اللي بقوله لازم تعرفوا إن مالكوش دخل باللي حصل، أمكم بتحبكم وأنا بحبكم، مش قادرين نتفق، وأحسنلكم لو مشاكل ماتكونوش موجودين فيها، الدنيا صعبة والبني آدمين بتتغير مع الأسف والمسؤوليات بتكتر والإنسان بيحتاج شخص يشيل معاه المسؤوليات".
لكن المشاكل داخل عائلة هشام لم تنته بالطلاق، بل إنها في الواقع بدأت منذ تلك اللحظة، حيث بدأت حين نأت زوجته بابنتيه قسمت وزين الشرف، ونورا، قبل أن تترك الأخيرة له -لأنها بحسبه- تكثر السؤال عنه، وهو ما جعله يبدأ في رحلة لا تنقطع من البحث عنهم، ولعل دوره في فيلم كلام في الحب عام 2006، كان تجسيداً لمعاناته في رؤيته لبناته الثلاث، حيث قدم وقتها دور رجل، يحاول الحصول على حق رؤية ابنه دون جدوى، ليحصل في النهاية على ساعة واحدة كي يراه، وهو ما يصيبه بالإحباط، ما سلط الضوء وقتها على معاناة الكثير من الآباء فيما يتعلق بـ"حق الرؤية".
ظل هشام سليم في حالة بحث محموم عن بناته، حتى ظهر بصبحة منى الشاذلي في عام 2013 يبكي بحرقة وهو يتحدث عنهن، وعن التربية "الخواجاتي" التي حظيت بها كل من قسمت وزين الشرف، مؤكداً بالدموع أنه لا يعرف عنهما شيئاً، وأن القانون ساهم في ذلك، ليؤكد: "الفلوس لا تعني شيء، أنا مستعد أديكم روحي". كانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي يبكي فيها هشام على الهواء، ليبرر دموعه لاحقاً: "الحمد لله أنا أحسن من غيري". كان وقتها يتمنى ولو اتصالاً واحداً من ابنتيه: "البنات يستاهلوا أحسن حاجة في الدنيا، ده اللي أنا مستنيه إن ربنا يهديها".
ظلت رحلة "البحث" مستمرة، ليس عن ابنتيه البعيدتين فقط، ولكن أيضاً عن هوية ابنته التي عاشت معه، نورا التي ثارت حولها ضجة كبرى عقب تحولها جنسياً إلى نور، وهو ما لم يستسغه الكثيرون، لكن موقف الأب كان قوياً جداً في هذا الصدد، حيث الكثير من الدعم والمساندة واللطف والتربيت. في عام 2020 حاولت إيناس الدغيدي إحراجه في أحد اللقاءات عقب سؤاله عن نور، لكنه رد بقوة وبثبات وبمنتهى الوضوح: "بنتي نورا بقت ابني نور، بتتحول، ماستغربتش لأنها من وقت ما اتولدت شايف إنها جسم ولد، من أول لحظة، وكنت طول الوقت بشك في الحكاية، لغاية لما في يوم من الأيام، البنت قررت تتحول، أخبرتني وسألتها المطلوب مني إيه؟ أنا متأكد إنه ربنا هو اللي بيصورنا في الأرحام، أنا عارف أكيد إنه بيمر بمشاعر وحاجات في مخه أكيد ملخبطة وتعباه، وكلنا متلخبطين، الله يكون في عون أي حد عنده المشكلة دي، احنا في مجتمع ده صعب بالنسبة ليه، لما بنتي قالتلي أنا عايشة في جسم غير جسمي، في عمر الـ18 سنة، استوعبتها، عمره حالياً 26 سنة، مقدرش أقول غير إنه شخص قوي، أنا أبوه ولازم أساعده يقدر يحقق عيشته اللي هو عاوزها، البطاقة مازالت بنت".
كانت المشكلة في تلك المرحلة عدم قدرة هشام نفسه على استيعاب ما جرى، رغم الدعم: "أنا كنت بغلط أقوله إنتي فده ضايقه، ودي حاجة سببت خلاف بينها خليته يبعد، أنا كان صعب عليا أمحي 18 سنة من ذاكرتي عن بنتي حبيبتي اللي أنا ربيتها، أكتر واحدة عشت معاها، ده سبب مشكلة، لما عرفت إنه بيواجه مشكلة مع السجل المدني وإنهم بيرفضوا تسجيله كذكر، حاولت أساعده واتصاحلنا، لأنه عانى في السنتين دول جداً، عندنا في مصر يا أنثى يا ذكر، معندناش حاجة في المرحلة اللي ممكن ينتقل فيها ذكر لأنثى أو العكس، هو طالب إنه يعمل بطاقة، شكله رجل، بطاقته أنثى، والناس رافضة".
دعم هشام ابنه حتى النهاية، هكذا ساعده على الدراسة في إنجلترا، وتعامل مع واقع أنه رجل، وصار يشجعه على استكمال حياته كبطل وليس كضحية، ثم ظهر أخيراً معه في وقت ابتعد عنه الجميع، ليؤكد: "حياتك كانت صعبة وهاتبقى صعبة، لكن اللي إنت وصلتله محتاج راجل يحققه، عندك هدف إنت شايفه وبتحققه وأنا متأكد إنك هاتحققه".
هكذا قتلته الكوميديا فنياً
مع كل دور قدمه، كان يشبه قطعة الحلوى داخله، جميلة ومميزة، بداية من دوره الأول في إمبراطورية ميم، وحتى تعاونه مع يوسف شاهين في عودة الابن الضال، والفيلم الشهير تزوير في أوراق رسمية، وكذلك فيلم لا تسألني من أنا، ثم بدأت الموهبة تتطور كثيراً وكذلك الأدوار، فلا ينسى الجيل القديم ذلك المسلسل العلامة "الراية البيضا"، حيث قدم شخصية باسمه الحقيقي "هشام"، شاب طموح يسعى لتعلم الفنون في إيطاليا، ولعل من الشخصيات المميزة أيضاً التي قدمها الراحل شخصية عادل البدري، شقيق علي البدري في مسلسل ليالي الحلمية، حيث الكثير من التصالح مع النفس والناس، شخصية تم رسمها لتصالح المشاهد على نفسه وتمنحه فكرة عن كيف يمكن للمرء أن يعيش في هذا العالم بسلام.
كان هشام سليم طوال الوقت في حالة صراع، بين الرضوخ لطلبات المنتجين -المهينة في بعض الأحيان- وبين الاتساق مع نفسه حيث الكثير من عزة النفس واحترام الذات، ربما لهذا يذكر فيلم "يا مهلبية يا" قائلاً: "كنا في يناير بنصور في إسكندرية في مشهد لازم ننزل فيه المية، لبسنا مايوهات وقعدنا دقيقتين في المية، كان موقف لطيف، ولما دخلنا المية لاقينا إن الموقف مش لطيف وكان مفروض نقف ونغطس تحت المية، فضلت أسأل نفسي بعدها: أنا عملت كده إزاي؟".
كانت علاقاته تساعده على الانتشار الشديد، لكنه لم يكن يركض وراء الفرص، كان ينتظرها أن تأتيه تقديراً لموهبته التي يراها جديرة بالتقدير، يقول: "بعد نجاح فيلم العاصفة تخيلت إني هايجيلي حاجات أحسن بكتير، لكن فوجئت إن مفيش حاجة خاص، والأدوار اللي جاية صعبة، الناس وقتها كانوا عاوزين كوميديا، مفيش كتاب كويسين، والمنتجين خايفين ينتجوا، بحجة إن مطلوب كوميديا، بقينا عايشين وسط ناس مرتزقة في السينما".
جرب الراحل تجربة التقديم التلفزيوني على شاشة سكاي نيوز، لكنها لم تكن شهيرة بالقدر الكافي، ربما لأن تقديم البرامج يحتاج إلى "فرقعات" و"لزمات" لم تكن لدى شخصية هادئة مثله، في الواقع كان لهشام سليم أحلام أبعد من مجرد التمثيل، هكذا قرر أن يبدأ رحلته مع الإنتاج، هذه المرة لأفلام وثائقية، عبارة عن مشاريع فنية تحمس لها مع المخرجة الشابة ماجي أنور، لتكريم الوجوه التي كانت لا تزال بعد على قيد الحياة، حيث يتكلف الفيلم الواحد بين 50 لـ100 ألف جنيه، هكذا ساعد بالمعدات والمال لإنتاج أفلام مثل الجميل عن جميل راتب و"المنتمي" عن دريد لحام، وآخر عن فاتن حمامة، مؤكداً: "ضروري نكرم بعض".
ظل لدى هشام سليم طموحات فنية غير محققة حتى اللحظة الأخيرة من حياته، حيث أعرب في لقائه الأخير مع منى الشاذلي عن أمنيته أن يعود للتمثيل مع شيريهان عقب عودتها للتمثيل من جديد.
رجل راضٍ بقدره "هذه كانت أيامه الأخيرة"
في الشهر نفسه الذي احتفل فيه هشام سليم بعيد مولده قبل الأخير، اكتشف إصابته بسرطان الرئة، حيث تلقى العلاج لمدة عام قبل أن تنتكس حالته الصحية، ليتبين أنه لا أمل سوى في مسكنات الأمل والتعايش مع الأمر حتى النهاية، الحق أنه أمر يتطلب قوة من نوع خاص جداً، وقد تحلّى بها الرجل من البداية إلى النهاية.
كان هشام سليم يعلم بإصابته بالمرض خلال تصوير مسلسل "هجمة مرتدة"، والذي أذيع خلال شهر رمضان من عام 2021؛ حيث تزامنت مشاهده في المسلسل مع بدء جلسات الكيماوي، مع ذلك استكمل دوره للنهاية قبل أن يتخذ قراره بالاختفاء نهائياً.
منذ تم تشخيص إصابة هشام سليم بمرض السرطان لم يخرج سوى مرة واحدة للحديث عما ألم به، وقد لفتني جداً طريقته في التعاطي مع الأمر، رغم صعوبته الشديدة، وهو ما كان واضحاً في التسجيل الصوتي الذي أرسله إلى برنامج إي تي بالعربي يقوله فيه:
"أنا الحمد لله كويس وكله تمام الحمد لله، وبيتهيألى السرطان اللي بتقولوا عليه دلوقتي أحسن من كوفيد والحاجات اللى بتضيع البني آدمين في 3 أيام، كل اللى يجيبه ربنا كويس، وأنا بخير لحد دلوقتي، والحمد لله، وقاعد فى السخنة". في الواقع حاول الرجل أن يبتعد قدر الإمكان، حيث استقر أخيراً في مدينة الغردقة، حيث عانى أوجاع المرض، بعيداً عن الأنظار.
هرب هشام سليم من الكاميرات والاتصالات والشخصيات الفضولية والوجوه الكثيرة إلى حيث لن يضايقه أحد، هروب اختياري قرر خلاله الاختفاء التام عن الأنظار، خاصة في الفترة الأخيرة، لذا حين حاولت صحيفة اليوم السابع التواصل معه للتعرف على تطورات حالته لم ينجحوا في الوصول إليه، لذا تواصلوا مع نقابة الممثلين التي أعرب ممثلوها عن عدم معرفتهم شيئاً عنه.
توفي هشام سليم، صباح الخميس 22 سبتمبر/أيلول، تاركاً خلفه صدمة على وجوه الكثيرين ممن لم يعرفوا أي شيء عن إصابته أو معاناته الأخيرة، حيث نجح في كتم أوجاعه والرحيل بهدوء شديد، ليفاجأ الجميع أن الفنان الهادئ جداً قد رحل، لينعيه نقيب الممثلين "وداعاً يا صديق العمر".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.