لم تكد حرب الجزائر تنتهي بإعلان الاستقلال عن فرنسا، في الخامس من شهر يوليو/تموز 1962، حتى احتدمت معركة دبلوماسية شرسة بين البلدين، اكتست طابع الحروب السرية الناعمة، بيد أنها وبخلاف سابقتها، لم تكن حول الأرض بل حول ما في باطن الأرض.
صحيح أن اتفاقيات إيفيان السويسرية، مهّدت لتقرير المصير واستقلال البلاد، لكنها خلفت في المقابل انطباعاً مهيناً، بفعل ما تضمنته من بنود، خاصة ما تعلق باستغلال الثروات النفطية والمعدنية، التي كانت تذهب فوائدها الكبيرة للشركات الفرنسية، مقابل فتات يسير لا يُسمن ولا يُغني من جوع، لشعب مزّقته الحرب، وقدم تضحيات جساماً في سبيل استرجاع أرض، بدت كما لو أنها مزرعة جوعى، بغلال وثمار، لا تزال تعصر في إناء مستعبديها السابقين.
1/ بومدين يفاجئ بومبيدو و"تيكي تاكا" دبلوماسية في البيت الأبيض
لم تفتأ السلطات الجزائرية تطالب منذ عهد بن بلة بضرورة مراجعة بنود اتفاقية إيفيان، وإن خفت حدة المطلب، بسبب الانقلاب الذي قاده بومدين ضد أول رئيس جمهورية للبلاد، يوم 19 يونيو/حزيران 1965، فإن الحاكم الجديد سيشرع على مدار سنتي 1969و 1971 في دعوة فرنسا ورئيسها جورج بومبيدو، إلى مراجعة عاجلة لبنود استغلال النفط الموكولة للشركات الفرنسية؛ حيث لم يعد وارداً البتة القبول بقسمة تذهب جلها للشركات الفرنسية على حساب دولة حررت نفسها من مستعمريها بقوة السلاح.
وحين لم تفض المفاوضات المباشرة التي قادها وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة، مع وزير الصناعة الفرنسي كزافييه أورطولي إلى أي تقدم بارز، بفعل تعنّت الفرنسيين، قررت السلطات الجزائرية اللجوء إلى الخيار الأقصى، ففي عصر يوم 24 فبراير/شباط 1971، وقعت الصدمة الكبرى، لما ألقى هواري بومدين خطاباً بمقر الاتحاد العام للعمال الجزائريين بعبارات حازمة وسط غلالة من التصفيق
والهتاف: "قررنا اليوم تأميم المحروقات بشكل كامل"
سارعت فرنسا الغاضبة إلى فرض عقوبات اقتصادية منها حظر استيراد الخمور الجزائرية الشهيرة، ثم إلى وقف استيراد المحروقات الجزائرية، بعدما بسطت الدولة الجزائرية اليد على 51% من استغلال حقولها النفطية، وأدى ذلك إلى مغادرة جل الشركات الفرنسية للبلاد، باستثناء توتال، في وقت فعل الكي دورسي شبكات الجوسسة وسفاراته في شمال إفريقيا جرياً وراء معلومات تشرح له غوامض ما يدور في سرايا الحاكم الثوري الجديد، ولم يمض غير شهر يتيم حتى كان الرئيس الأمريكي نيكسون يفاجئ الفرنسيين برسالة شخصية وجهها لنظيره الجزائري يصلح فيها انقطاع العلاقات الدبلوماسية التي أعقبت الحرب العربية الإسرائيلية أو ما سمي، نكسة 1967:
"إن الولايات المتحدة الامريكية، على أتم الاستعداد لاعادة تطبيع العلاقات الدبلوماسية، متى ترغبون في ذلك".
على نحو ما لم يكن موقف البيت الأبيض غير رد للجميل للجزائر التي أمدت إدارته بقائمة اسمية لكافة المعتقلين الأمريكيين لدى الفيتناميين، مستغلة علاقاتها الحميمية معهم، ولم يكن متأتياً ذلك بغير عمل تنسيقي قاده رجل أعمال شهير يدعى مسعود زقار، المكنى رشيد كازا، وهو ضابط سابق في جهاز مخابرات الثورة، قبل أن يتحول للأعمال الحرة، بالتنسيق مع دبلوماسي جزائري كان شغل منصب سفير الجزائر لدى الولايات المتحدة الأمريكية يسمى شريف قلال، والاثنان شخصان من عرابي تشبيك العلاقات وصناعة المصالح وتكثيف النفوذ، بما أن الأول صديق مقرب للميلياردير الشهير روكفيلر، ولمدير الاستخبارات الأمريكية جورج بوش الأب ، فيما كان الثاني صديقاً حميماً ليولاندا بيتبيزي فوكس ملكة جمال أمريكا العام 1951، وأرملة مدير الشركة السينمائية الهوليودية العملاقة توانتيث سانتيري فوكس.
وذلك القرار التاريخي الخطير، منح لبومدين كنية شعبية ترمز للرجولة والشهامة فلقب "الموسطاش" وتعني "أبو الشوارب"، فاكتسب شرعية شعبية، رغم مجيئه للسلطة على ظهر دبابة، ولم تكن تلك الحظوة تقل وزناً عما اكتسبه "البكباشي" جمال عبد الناصر في زمن القومية العربية الحالم.
وفي الحقيقة، لم يكن بومدين البطل الوحيد في هذه القصة، لقد كان ثمة رجل آخر، غير مرئي، يخوض مغامرة سرية مكّنت البلاد من تأمين مفاوضات النفط بشكل غير مسبوق، وحقيق بأفلام السينما والخيال البوليسي.
2/ العميل السري الذي نافس عمر الشريف على دور بطولة لورانس العرب
رأى رشيد تابتي النور في مدينة الجسور المعلقة، قسنطينة، شرق الجزائر العام 1930، في عائلة ميسورة الحال، وملتزمة بالقضية الوطنية الجزائرية، فصهره وزوج شقيقته عبد الرحمن بلموفق، رجل وطني انتمى للحركة الاستقلالية الجزائرية، فأجبرته السلطات الفرنسية على مغادرة الجزائر نفياً إلى فرنسا بعد كشف ميوله الوطني.
هكذا وجد رشيد تابتي نفسه في باريس، تحت رعاية عمه، أحمد بلالوفي، مقبلاً على الحياة بنهم كبير، نظير ما تمتع به من ذكاء عقلي واجتماعي مستفيداً بلا ريب من وسامته الطاغية، وشكله الجذاب وبنيته الأنيقة، وحظوته لدى النساء. حصل على شهادة البكالوريا التي فتحت له الباب ليكون طبيباً، ولأنه يعشق الملاكمة، فقد فضل دراسة القانون حتى يتاح له وقت للتفرغ لها. أحرز لقب البطولة الجامعية الفرنسية وبطولة الهواة في وزن الذبابة، بين عامي 1951 و1955، وكان مقرراً أن يطرق باب الاحتراف معية مدربه جورج بريتونال، لولا إصابته بالربو التحسسي، فاضطر إلى رمي المنشفة من عالم الملاكمة، مولياً وجهه إلى عالم التمثيل والسينما.
ظهر الوسيم في أدوار سينمائية وتلفزيونية، رفقة النجمة الإيطالية جينا لولو بريجيدا في فيلم اللعبة الكبرى، وجون ماريز في فيلم الكونت دو مونت كريستو، ومارين كارول في فيلم نانا، في حين كشف ابنه الوحيد أنيس في مقابلة صحفية مع جريدة الوطن الجزائرية العام 2015 بأن والده ترشح لأدوار نهائية رفقة عمر الشريف في الكاستينغ الخاص بفيلم لورانس العرب".
مكنته الملاكمة والسينما من التغلغل في وسط المجتمع المخملي الفرنسي، والاندماج ضمن الطبقة الراقية، فكسب صداقات كثيرة مع شخصيات من مختلف الفئات، وما من شك ستساهم شبكة علاقاته في إنجاز المهمة التي خلق لها، وفي أن يكون كاتب ملحمة عظيمة، ولاعباً محورياً في ملف تأميم المحروقات، حينما نذر نفسه لمهمة وطنية، خاض فيها قصة حب من أجل استرجاع النفط.
3/ قصر الشوق: السكرتيرة الشقراء في ضيافة أمير الشرق
لا معلومات شافية عن مساره الحقيقي الذي بقي طي الكتمان، غير أن مقتطفات منشورة، أشارت إلى أنه انخرط سرياً في حزب جبهة التحرير الوطني خلال فترة عيشه في باريس، حيث انتمى إلى وزارة التسليح والعلاقات العامة، المعروفة اختصاراً بمسمى" المالغ"، وهو الذراع المخابراتية التي أنشأتها الثورة على يد عبد الحفيظ بوصوف، أبي المخابرات الجزائرية.
وتكفل بجمع معلومات وفي وضع شبكات لصالح الثورة في فرنسا، بما أنه كان متقناً لخمس لغات هي العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ثم عمل بعد الاستقلال في شركة سوناطراك الجزائرية كمكلف بالعلاقات العامة، وبالسفارة الجزائرية بفرنسا تحت إمرة السفير موساوي، تتويجاً لمسار دراسي حصل خلاله على ليسانس في القانون ودبلوم في الدراسات الدولية من جامعة باريس.
معلومات أخرى تشير إلى أنه ضابط برتبة ملازم في الفرقة " بي.2″، وهي فرع تابع لجهاز "الأمن العسكري" يتبع مدير المخابرات قاصدي مرباح، ونائبه محمد يزيد زرهوني، ومهمته الاستخبار في القطاعات ذات الصلة بالاقتصاد والعلاقات المالية والتجارية، ولهذا الغرض عد ورقة الجوكر المطلوبة، عندما يقرر بومدين المرور للسرعة القصوى لإنهاء لعبة النفط المستعرة.
تعرف رشيد على شقراء أربعينية، فرنسية الجنسية يونانية الأصول، وصار يلاقيها على موائد عشاء رومانسية منتحلاً صفة أمير تركي من جزيرة مرمرة، وقد بدأت تتلذذ الطعم حينما دعاها إلى منزله الفاخر بالدائرة التاسعة عشرة الباريسية، وهو بيت وضع تحت تصرفه من قبل المخابرات الجزائرية عبر وزارة الخارجية.
وليعلن حسن نواياه عقد معها خطبة صورية، قبل أن يقودها في نزهات في سيارته الألفا روميو الفخمة، محدثاً إياها عن الورود والحب والموسيقى والعطور، ثم لاحقاً سيمطر خيالها بالسحر الغرائبي والعجائبي، حينما يصحبها معه في زيارة حالمة إلى بيته العائلي القديم بمدينة قسنطينة، مدعياً أنه أحد سراياه المنتشرة عبر العالم.
لاحقاً وعندما سيتأكد أنها هضمت وتمثلت الطعم، سيطلب منها مده بمعلومات من المصلحة التي تقع تحت سلطة إدارتها، فلم تتردد مخطوفة العقل والقلب، في أن توفر له ما بين 2000 و4000 معلومة شديدة الحساسية.
كان اسم الشقراء بياتريس هيليغا، ووظيفتها: رئيسة مصلحة السكرتارية الخاصة بالسيد جون بيار بروني، رئيس الوفد الفرنسي المفاوض باسم الشركات النفطية الفرنسية، والمدير المركزي للعلاقات الاقتصادية لدى وزارة الاقتصاد الفرنسية، بقصر الحكومة الفرنسية، الكي دورسي.
يحصل رشيد على نسخ الوثائق السرية من عشيقته، يحملها معه ليودعها في صندوق بريد بفندق يديره مصطفى الجزائري، واقع في الدائرة الثانية عشرة، يذهب عميل آخر يسمى والي بومعزة وكنيته الطيب، ليتسلمها ناقلاً إياها للجهات العليا للبلاد.
سمحت تلك الوثائق السرية، للسلطات الجزائرية الاطلاع المسبق على نوايا وأفكار الوفد الفرنسي المشارك في مفاوضات النفط مع الجزائر، وبالتالي تحليلها واستباقها بشكل فعال، ما كان سلاحاً فتاكاً حسمت به الدولة الجزائرية خياراته واحتياطاته.
على صعيد آخر، مكّنت معلومات سرية من معرفة الشفرة الخاصة بالسفارة الفرنسية في الجزائر، وحيازة معلومات استباقية دفعت السلطات الجزائرية إلى تحويل كافة احتياطات الخزينة العمومية إلى الفرنك الفرنسي وعملات أجنبية تفادياً لتداعيات فقدان ما يفوق 12% من العملة المحلية.
4/ وشاية غامضة.. وصفقة مقايضة جزائرية فرنسية لتبادل الجواسيس
قبل أشهر قليلة من إعلان بومدين قراره التاريخي الصاعق، وردت معلومة مجهولة المصدر لجهاز مديرية حماية الإقليم، تفيد بعلاقة مشبوهة بين الآنسة بياتريس وشخصية غامضة، اتضح لاحقاً أنها حجر الزاوية لتفكيك شبكة فعالة، ليماط اللثام عن شكوك غزيرة عبَّر عنها محامي الوفد الفرنسي المفاوض تيكزي فينيانكور: "ساد لدينا انطباع بأن الطرف الجزائري كان يعرف أدق التفاصيل والتعليمات السرية الواردة إلينا، من الكي دورسي حتى قبل الجلوس حول طاولة المفاوضات". ليضيف بشكل حاسم:
"لكن اللغز حل بواسطة معلومة وردت لمديرية حماية الإقليم تؤكد أن تلك الوقائع تقف وراءها الفرنسية بياتريس هيليغا، سكرتيرة مديرية العلاقات الاقتصادية لدى قصر الحكومة بالكي دورسي".
ألقي القبض عليها، وعلى الجزائريين رشيد تابتي ووالي بومعزة، ويوم نشرت جريدة لوموند الفرنسية، شهر أكتوبر/تشرين الأول 1970، لم يصدق كثير من الفرنسيين تورط رشيد في قضية جوسسة، حتى وجهت محكمة أمن الدولة الفرنسية للموقوفين الثلاثة تهماً جنائية تخص "المساس بأمن الدولة، والتخابر مع قوة أجنبية، يتعلق الأمر بدولة الجزائر، من شأنها المساس بالحالة العسكرية والدبلوماسية، أو بمصالحها الاقتصادية الحيوية".
حكم على الجاسوس الأنيق بعشر سنوات نافذة، بعدما توصل محققو المخابرات الفرنسية، إلى أنه كان مديراً فعلياً لشبكة مصغرة للجوسسة، لم تكن لتحقق شيئاً دونه، وبتعبير أدق كان عازفاً أوركسترالياً سير جوقته باقتدار على مدار سنتين كاملتين، من رفع الستارة إلى ختام العرض. لم يمض رشيد غير عامين فقط، في سجن لا سانتي، ثم في عنبر الجواسيس بمركز مولن، ليتم إطلاق سراحه العام 1973 في صفقة مقايضة وتبادل جواسيس، أبرمتها السلطات الجزائرية لاسترجاع عميلها السري مقابل خمسة وثلاثين جاسوساً فرنسياً، بينهم أحد عشر موقوفاً بتهم الجوسسة الاقتصادية، تم توقيفهم في الجزائر بينهم شبكة الدكتور داميان الشهيرة.
ثم عاد رجل الظل إلى حياة الظلال، فامتهن المحاماة، لسنوات طويلة، مفضلاً العيش في شقة عادية في بلدية الأبيار في أعالي العاصمة الجزائرية.عاش الذي مكن بلاده من حق نفطها دون أن يلفت نظر أحد، وتوفي في صمت دون أن يأبه به أحد. عاش بطلاً مخفياً وانتهى رجلاً منسياً.
في العام 2011 رغب عدد من الصحفيين والكتاب الجزائريين التقرب منه من أجل حوار للتاريخ، أو تأليف كتاب، بيد أنهم صعقوا وابنه الوحيد أنيس تابتي يرد متحسراً:
للأسف الشديد. مات أبي قبل سنتين.
في العام 2009 كان رشيد لفظ أنفاسه الأخيرة متأثراً بداء الرعاش، الباركنسون، الذي ورثه من أيام حلبات الملاكمة تماماً كبطله الأسطوري المفضل محمد علي كلاي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.