التاريخ صورة مشوّهة من الماضي الإنساني، وفي ذلك التاريخ توارت الحقيقة الإنسانية عن النص التاريخي، وحلت مكانها رؤية المؤرخين للواقع التاريخي، ومن ذلك الواقع التاريخي خرج الخيال كأنه الحقيقة، واستقرت صورته النصية بالذهن البشري.
ونصوص الاستشراق كلها صورٌ مشوّهة من تاريخ الإنسان الشرقي؛ ذلك التاريخ الذي تلاعبت به أقلام المستشرقين لعدة قرون، وأصبح التاريخ الشرقي مجرد افتراضات وخيالات أكثر منه حقيقة واقعية، وتم نقلها نقلاً خيالياً فأصبحت نصاً تاريخياً.
والاستشراق هو تخصص علمي أكاديمي؛ إذا قمنا بتعريف معناه الدقيق، بينما الاستشراق في حقيقته هو مجموعة من النصوص التاريخية، تراكمت عبر الزمن في أذهان المستشرقين، ثم أصبحت أيديولوجية علمية مسلَّمة وثابتة بذهن الإنسان الأوروبي الغربي.
والمستشرقون هم الأدوات الثقافية التي صنعت هذا المشروع، وموضوع الاستشراق دائماً متمحورٌ حول الإنسان الشرقي، وتحديداً عن الشرق الجغرافي، بنسبة واحدة بين أقصاه وأدناه، وإلى الإنسان الشرقي ألصق المستشرقون صفات مذمومة.
وتلك الصفات المذمومة عن الشرقيين موجودة في أغلب النصوص الاستشراقية، وفي تلك النصوص تم تصوير الإنسان الشرقي في أذهان المستشرقين على أنه إنسان متخلف ورجعي وغير متحضر، واستقرت تلك الصفات الذميمة عن الإنسان الشرقي، وأصبحت عقيدة ثابتة في أذهان العوام من المواطنين الغربيين، بفعل قوة النصوص الاستشراقية المتراكمة عبر العصور وهيمنتها.
والشعوب الشرقية هي شعوب ضعيفة وغير متحضرة، لذا يتم استباحة حدودها الجغرافية تحت القوة العسكرية الأوروبية الغربية، لأن هذه الجيوش هي الأدوات العسكرية لبناء الإمبراطوريات داخل الأراضي الشرقية، بهدف إخضاع الشعوب الشرقية للقوة الإمبريالية الغربية.
والشعوب الشرقية هي شعوب متخلفة، ولا يمكن أن تمثل نفسها؛ لذا تحتاج إلى الإنسان الأوروبي الغربي بأن يقوم بتمثيلها؛ لأنها لا تستطيع ذلك بسبب جهلها، ولا بد للإنسان الأوروبي أن يقوم بتمثيلها، فهو إنسان متحضر ومتطور وأوروبي وغربي وأبيض.
وبين المستشرقين والغربيين توجد حلقة وصل بينهم وبين السلطة السياسية؛ إذ المستشرقون يملكون المعرفة التي يحتاجها الحاكم الغربي الأوروبي، لكي يحقق مشروعه الإمبريالي في الشرق، وذلك المشروع الاحتلالي الإمبريالي لا يكتمل إلا بأخذ المعرفة التي اكتسبها المستشرقون تراكميا عن الشرق، وهنا ترتبط المعرفة بالسلطة، ويتحقق المشروع السياسي الأوروبي الإمبريالي على الأراضي الشرقية بالقوة المعرفية الاستشراقية، وبالقوة العسكرية المتحالفة مع السلطة السياسية الغربية الإمبريالية.
والسلطة السياسية الإمبريالية الغربية كانت تتصارع عسكريا من أجل تحقيق المشروع الإمبريالي في الشرق. والاحتلال الفرنسي والبريطاني بسطوا نفوذهم في الشرق وتقاسموه فيما بينهم وتشاركوه، وإن كان الحظ لصالح القوى الاستعمارية البريطانية؛ إلا أن فرنسا قد أخذت حصتها في آسيا وشمال إفريقيا، بينما القوة كانت لبريطانيا، التي استطاعت بسط نفوذها العسكري والسياسي والاقتصادي على الهند، ونفس السياسة الإمبريالية طبَّقتها فرنسا على مستعمراتها بشمال إفريقيا.
وأبنية الاستشراق ورموزه وجغرافيته هي مجرد خيالات للمستشرقين من أجل الهيمنة على الشرق؛ لذا فهناك رموز سياسية عسكرية نقلت صورة الاستشراق التقليدي من بُعده النظري إلى العملي، وهذا ما قام به نابليون بونابرت في حملته على مصر بالقرن التاسع عشر. وكرومر وبونابورت هم من رموز الاستشراق الحديث. بينما الرموز البرجوازية تتمثل في خطابات بلفور أمام مجلس العموم البريطاني، وهي خطابات تجسد النزعة الاستشراقية التقليدية المحافظة للشخصية الأوروبية الغربية المتعالية.
فرضية الاستشراق عند إدوارد سعيد
والقوة التي أكسبت الاستشراق هذه الهيمنة هي قوة ناتجة عن تحالف السلطة السياسية والمؤسسات الثقافية للاستشراق، وذلك التحالف هو ما أكسب الاستشراق هذه القوة التي أكسبته الاستمرار لعدة قرون من الزمن، وجعلته يحافظ على أيديولوجيته الاستعمارية الإمبريالية، والسر يكمن في النصوص الاستشراقية المتحالفة مع السلطة السياسية، في سبيل الهيمنة على دول الشرق.
والاستشراق التقليدي كان مُقتصراً على النصوص التخيلية عن الشرق والشرقيين، التي كتبها المستشرقون الموالون للسطلة السياسية، وكانت على المستوى النظري فقط وأنظمة الاستشراق التقليدية متمثلة بفرنسا وبريطانيا، مع نصيب قليل لألمانيا وروسيا وإيطاليا، بينما الاستشراق الحديث هو الذي خطفته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، لترفع بذلك شمعة الإمبريالية الغربية الحديثة على دول العالم الثالث، وهي تتصدر المشهد العالمي منذ الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك العلوم الإنسانية كانت متأثرة بالأيديولوجية الاستشراقية في أغلب حالاتها؛ نظراً للهيمنة الاستشراقية على المؤسسات العلمية والأكاديمية.
هذه هي الفرضية التي تخيلها إدوارد سعيد عن الاستشراق، وتلك هي الرؤية التي وضع فيها إدوارد سعيد المسشترقين في كتابه. فهو يتناول النصوص الاستشراقية من منظور خطابي ما بعد بنيوي وهو يحلل هذه النصوص الاستشراقية، انطلاقاً من فلسفة ميشيل فوكو للخطاب وللمعرفة الإنسانية ما بعد البنيوية.
مفاهيم الاستشراق: الخطاب من فوكو والهيمنة لغرامشي
وهو أيضاً استخدم الهيمنة انطلاقاً من رؤية ثورية ماركسية وأخذها بحسب المفهوم الذي وضعه أنطونيو غرامشي مقابل السلطة السياسية، وهيمنتها على المجتمع المدني ومؤسساته. وتلك الرؤية فيها النموذج المادي الماركسي، وصراع الطبقات، والمادية التاريخية، وإن كان مشروع غرامشي مشروعاً سياسياً وثورياً ماركسياً؛ لذا فالمنطق يُبرر مفهوم الهيمنة في مشرع غرامشي، بينما لا يمثلها في الاستشراق، وسوف أناقش هذه النقطة لاحقاً.
لا يمكنني فهم الفرضية التي وضعها إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق على أنها نقد ثقافي للخطاب الغربي الإمبريالي، كما أنني لا أقبل هذه الصورة الضعيفة للشرق، التي تخيلها إدوارد وألصقها بنصوص المستشرقين، ووظّفها توظيفاً دقيقاً.
ولديّ عدد من الحجج، ولن أستخدم منها إلا حجة واحدة، وأظنها كافية لإيصال فكرتي عن كتاب الاستشراق وما فيه من انتقادات. فالأداة التي استخدمها سعيد لانتقاد الاستشراق هي أداة غربية، وهو اعترف في بداية كتابه بأن علاقته بالشرق هي علاقة جذرية، بينما علاقته بالغرب هي علاقة ثقافية، وهو ابن المؤسسة الأكاديمية الغربية، لذا لا يمكنه أن يقدم نقداً ثقافياً بنفس الأدوات والمناهج المعرفية للحضارة التي يحاول نقد خطاباتها الثقافية، فالمنطق لا يستقيم في هذا الطرح، ما يفرض التناقض في هذه الدعوى.
وإذا وضعنا في باب المجاز أن سعيد سجين للثقافة الغربية وابنها، ولا يمكن انتقاد تلك الحضارة والأغلال الثقافية والأيديولوجية تحيط به من كل مكان، فعليه أولاً أن يختار منهجاً معرفياً من خارج الحضارة التي يحاول نقدها، تلك هي الحجة الأولى التي أُقدم فيها رأيي عن الفرضية التي وضعها إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق.
والآن سأشرح بإيجاز التناقضات المنهجية التي وقع فيها إدوارد سعيد؛ فبينما يتحدث سعيد عن الهيمنة الاستشراقية للغرب وتعاليه على الشرق، نجده يستشهد بمقولة لكارل ماركس، وفي الوقت نفسه يتبنّى مفهوم الهيمنة لناشط سياسي ماركسي، فهو من جهة ينتقد الرؤية الاستشراقية، ومن جهة أخرى يوظف مفاهيم استشراقية!
والتناقض الآخر الذي وقع فيه سعيد بحسب رأينا هو تناقض أخلاقي، فبينما يقدم سعيد آراءه النقدية عن الاستشراق والمستشرقين، ويقوم بتحليل نصوصهم، نراه قد استخدم نموذج مشيل فوكو، وهو الشخص الذي كان يغتصب أطفال التونسيين داخل المقابر، فكيف تأخذ أقواله، وسلوكه العملي مناقض لأقواله؟!
نظرية ما بعد الاستعمار: هومي بابا وغاياتري
وفيما يتعلق بنظرية ما بعد الاستعمار فإن كان فرانز فانون هو أول من فتح هذا الباب وقام بانتقاد الاستعمار الفرنسي، وحث على محاربته وطرده من البلدان المستعمَرة، وطرح أفكاره عن العنصرية وعن الاستلاب، وكشف جرائم المستعمِر بحق الشعوب المستعمَرة، فإن هذه الأفكار هي التي فتحت الطريق أمام سعيد لتقديم مشروعه النقدي للثقافة الغربية وخطابها الاستشراقي، المتعالي بالذات الغربية على الذات الشرقية، فكان ينتقد ذلك، كما تطرّق إلى العنصرية وإلى الاستلاب، بالإضافة إلى الهيمنة والسلطة والقوة والمعرفة، وهي المفاهيم الرئيسية التي يقوم عليها كتابه المتعلق بفرضية الاستشراق، ولكنه قدم الشرق بصورة تابعة ضعيفة داخل النص، وهذا ما نعيبه على كتاب الاستشراق ونرفضه.
ونظرية ما بعد الاستعمار تعتمد على مساهمات فانز فانون، بالإضافة إلى النقد الثقافي الذي قدمه سعيد في كتابه الاستشراق، وانطلاقاً من هذه الأعمال يمكننا تحديد هذا التيار، انطلاقاً من مساهمات فانز فانون "معذبو الأرض"، مع كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد.
وإذا انتقلنا إلى تيارات ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية وما بعد النسوية سنتوقف عند تساؤلات هومي بابا المتعلقة بالهوية؟ وفضاءاتها المتعددة وإعادة التحليل خارج أبنية الهوية، وفلسفة ذات أبعاد حداثية فيها تتعرض المفاهيم للشك، وتخضع للمفاوضة في سوق عالمي مليء بالألفاظ.
وفي ذلك السوق تخضع قيم الأشياء إلى كمّ كبير من التفكير، وفيه تتولّد صورة جديدة من ماضي الأشياء، فتولد بمعانٍ جديدة، وفي تلك المعاني تولد مفاهيم جديدة للعِرق والجنس والجماعة، وفيه أيضاً تخضع الجماعة إلى كمّ هائل من النماذج المعرفية، تتقاطع فيه التيارات الفلسفية والرؤى الحداثية وما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، لنقترب من فضاء معدوم تنعدم فيه معاني الأشياء ويهيمن خطاب ما بعد البنيويية على كل شيء، فتقف فيه آراء دريدا شامخة بمفاهيم التفكيك والتركيب. وبالإضافة إلى ذلك يخضع الإنسان لتفسيرات هجينة يطلقها بابا على الإنسان ليحاول تفسيره تفسيراً نفسياً بحتاً… لكي يتمكن من فهم الأقليات والإثنيات والاستعمار والجماعة والثقافة وصدام الثقافات والتناحرات.. ذلك هو الطرح ما بعد الكولونيالي.
ثم تطرح غاياتري سبيفاك سؤالها المتعلق بإمكانية التابع، وفكرة التحدث أمام القوى الاستعمارية: هل يمكن للتابع أن يتحدث؟ وتناقش غاياتري هذا السؤال بعدما تعيد الاستعمار إلى الاستجواب وتخضعه لنقدها الماركسي المتأثر بفلسفة دريدا، ثم تخلق طبقات من خلالها، تتصور المجتمع الهندي ممثلاً بطبقة الاستعمار، وطبقة النخبة المثقفة المحلية، وطبقة النبلاء الفلاحين، وفي ذهنها يتصارع الطرح النسوي وخطاب ما بعد الاستعمار؛ لتنتهي إلى أن المرأة تابعة في جميع الظروف، والإنسان مجرد إنسان وتابع ومهمش.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.