هلَّ الشتاء ببرده وهطوله بعد طول غياب، اشتهينا المطر يروي الثرى، ويغسل الغبار العالق في الجو، والمنتشر في كل مكان، شرعت السماء تسكب غيثها، والأرض ترفع أكُفّها ترحّب بهذا الضيف العزيز على القلوب، ارتوت الأشجار، وأخضرّت الجبال، ونبت النرجس شامخاً مختالاً، وأزهَر قرن الغزال، وتململت البذور البرية من كل شكل ونوع، واهتزت وشرعت تدفع التربة وتربو على سطحها، وفي الوقت ذاته اختبأت الحيوانات والطيور، كلٌّ في مخبئه، ومنها ما ذهب في سبات شتوي طويل لا يوقظه منه إلا دفء الربيع وحنو شمسه.
وفي داخل بيوت البشر حكاية أخرى مختلفة، تروي قصة الركون إلى الرحة والدفء، كلٌّ بطريقته الخاصة ومفرداته، تنسابُ ذكريات الجدة، تحكي قصص "أيام زمان" الآتية من الزمن البعيد، وقصص البطولات العجيبة والبلاد التي لا يضاهي جمالها وخيراتها شيء، برغم شظف العيش وقلة وسائل الرفاهية التي لا تشبه أيامنا هذه، إلا أنها عامرة بالحب والدفء، زمان لا يوجد فيه إنترنت، ولا أجهزة موبايل تغيِّب الناس عن الواقع من حولهم، أيام جميلة يتمنى الواحد منا لو يجرب يوماً منها.
فانوس الجاز ينير المكان، ويضخم ظلال الأشياء، وموقد الحطب لا يمل من التهاب الأخشاب ونثر الدفء وتصاعد ألسنة لهيبه. الإبريق لا ينفك يغلي فوق الموقد مطلقاً رائحة الشاي المعطر بشذى الميرمية، وحبات البطاطا الحلوة تنضح وتحمر وتتجهز لتلتهمها أفواه وبطون جائعة لا تكاد تمتلئ حتى تعيد الكرة مرة أخرى. مفتول ومجدرة وخبيزة ولوف وغيرها، لا يملّون من تناولها.
أغنام الحظيرة ودجاجات القن قُدِّم الطعام لها باكراً، وأُحكم إغلاق الأبواب، سقف الصفيح ثُبِّت بشكل متين قبل أن يهلَّ كانون، الزيت مخزَّن في جِرار ملفوفة "ببطاطين" تحفظه من البرد، فلا يتغير طعمه، وطحين القمح يكفي مؤونة العام حتى قدوم يونيو/حزيران بمحصول جديد، الجميع يعلم جيداً أن "القمح والزيت.. سبعين في البيت"، آه على أيام زمان، ما أجملها.
يخطر ببالي سؤال: هل كانت الأسرة تعي حجم السعادة التي يغرقون فيها آنذاك؟ أم أنهم وكعادة البشر اعتادوا على ما بين أيديهم ففقدوا لذته؟
كنت أداعب جدتي متسائلة: هل كنتِ تتشاجرين مع جدي الحج في "الزمانات" يا جدتي؟ ثم أُطلق ضحكة من قلبي.
كانت تنتفض قائلة: الحج الله يرحمه تاج راسي.. كيف أتشاجر معه؟ صحيح أنه عصبي جداً، ولكن لا قِبل لي بإغضابه، أحتمل كل ما يصدر عنه بصبر.
في أيامنا هذه نتذمر من الشتاء، ونعتبره مرادفاً لمصطلح "الملل"، لا نحب القيود التي يفرضها علينا ببرده وأمطاره وانقطاع التيار الكهربائي أحياناً، ونمقت جبروته حين يدفعنا إلى التزام البيوت، كثيرون يؤمنون بضرورة الإنتاج المستمر دون راحة، لدرجة تدفعهم للضغط المستمر على أبنائهم ليستيقظوا باكراً ويمارسوا نشاطاتهم وأعمالهم اليومية ودراستهم، دون اعتبار لبرودة الجو، ورغبة النفس البشرية في البقاء في الفراش، وطلب المزيد من الراحة والدفء.
تتذمر الأمهات في أيامنا من كثرة طلبات أفراد الأسرة، فما بين وجبات طعام وحلويات ومكسرات وشاي وزهورات وغيرها، الأمر الذي يفرض عليها مزيداً من الأعباء في المطبخ. وتتناسى أن طبيعة الطقس البارد تدفعهم إلى ذلك، تتمنى لو كان بإمكانها أن تتركهم يخرجون لترتاح، ولو لبعض الوقت، لقد ملَّت الفوضى التي يُحدثونها في أرجاء البيت، وعِراكهم الذي لا ينتهي.. "فمتى يعودون لمدارسهم؟".
الحب والتقارب واللمة من ضرورات الشتاء، تسبغ على النفس سكينة هي في أمسّ الحاجة إليها، فهل نكون كرماء فنهبها لمن حولنا عن طيب خاطر، أم بخلاء نضنُّ عليهم بها؟.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.