نحن في عز الصيف بالمغرب. الشمس حارقة بمجرد شروقها في هذه الربوع الصحراوية القاحلة جنوب شرق المغرب، مع ذلك تجدهم منذ الصباح الباكر وحتى الزوال محلّقين حول المدارات الطرقية أو على جنبات الطرق بنواحي "تنغير" و"زاكورة"، وبأيديهم أكياس بلاستيكية يشيرون بها على السائقين، فتتساءل للوهلة الأولى: من يكون هؤلاء؟ ماذا يحملون بأياديهم؟
"أيت واري" أو بائعو النبق
لا يتعلق الأمر بجنود يقصدون ثكناتهم، فيلوحون بأياديهم لعل أحداً يتوقف ليوصلهم إليها، ولا بعمال متوجهين إلى عملهم وبأياديهم أكياس بها ما يسدون به رمقهم وقت الاستراحة، ولا عمال نظافة يلمون النفايات، فهؤلاء هم في الغالب من يستيقظون في هذا الوقت، بل هم أطفال أغلبهم تلاميذ في المستوى الإعدادي، ومنهم أيضاً من يتابع دراسته في السنوات الأولى الابتدائية، يستغلون العطلة الصيفية للعمل متخذين من تلك المدارات ومن جنبات الطرق مكاناً لبيع النبق المسمى محلياً "واري"؛ لذلك يطلق عليهم "أيت واري"، أي أصحاب النبق الذي تبدأ عملية جَنْيه بهذه المناطق في أواسط يوليو/تموز، وتستمر حتى نهاية أغسطس/آب تقريباً.
في حالات أخرى، لا يقتصر الأمر على الأطفال فقط، بل يمتد للعائلة كلها، كما هو الحال بالنسبة للطفل أحمد الذي يقطع كل يوم رفقة أمه وإخوته الصغار أزيد من ستة كيلومترات لجني "بندق الصحراء".
"كان والدي يشتغل في التقاط وبيع النبق، ولكن بعدما أرهقه المرض، أصبحت أنا وأمي وإخوتي الصغار من يقوم بذلك، لقد تمكنا في النهاية من جمع ثلاثة آلاف درهم"، يقول أحمد.
تقسيم العمل
يستيقظ الحسين الذي يتابع دراسته في جذع مشترك علمي باكراً قبل أن تلتهب أشعة الشمس في هذه البيداء، يقصد أشجار السدر المنتشرة في منطقته بنواحي "تنغير" ليلتقط ما تيسر من النبق الذي يجده متساقطاً بمحض إرادته عندما يبلغ ذروة نضجه، وإلا فإنه يضطر لهش وتسلق الشجرة لتتساقط حبات النبق كبَرد غزير ولكن هذه المرة بلون بني.
أما أخوه إسماعيل الذي يصغره سناً، فيتولى مهمة البيع على قارعة الطريق الرابطة بين "تنغير" و"ألنيف"؛ حيث يحمل معه كل صباح كيساً به كمية لا بأس بها من واري تصل حتى خمسة كيلوغرامات.
إذا كان هذان الشقيقان وغيرهما كثير من الأطفال يوزعون المهام بهذا الشكل، فإن آخرين يفضلون الالتقاط أولاً إلى حين جمع كمية كبيرة ثم بعدها تأتي مرحلة عرضها للبيع.
تنظيم محكم أثناء العرض
عندما يكثر العارضون، فإن تنظيم العملية يصبح ضرورياً لضمان حق البيع للجميع؛ إذ لا يعقل -حسبهم- أن يبيع أحدهم سلعته كاملة بينما يعود آخر إلى بيته كما خرج.
يصطف هؤلاء الأطفال على رصيف الطريق بنظام وانتظام، الواحد تلو الآخر تفادياً للفوضى، باتفاق ودي بينهم، حيث تكون السيارة أو السيارات القادمة في الاتجاهين معاً لأولهم في الصف، وحينها هو وحظه، فإما أن تتوقف ويبيع أو يعود لمكانه ليفسح المجال للذي يليه ليجرب حظه مع سيارة أخرى وهكذا.
أما حينما يكون عدد العارضين قليلاً، فحصة البيع الأكبر تكون من نصيب الأسرع أو القادر على إقناع الزبون بجودة سلعته وبفوائد النبق، أو بتخفيض السعر حتى يصبح دون سعر الآخرين، وإن قلما يحدث ذلك، لأن من يقوم بتخفيض الثمن يجلب عليه سخط بقية الأطفال ويصبح منبوذاً بينهم؛ لذلك فعند تحلقهم حول سيارة، فإنه يتم اللجوء لإجراء القرعة لفرز من يبيع له درءاً لأي مناوشات ولأي تخفيض يضر بالبائعين.
في مقابل ذلك، يتجنب بعض الأطفال أماكن التجمع مفضلين الوقوف فرادى بعيداً عن الآخرين؛ حيث تكون فرصة البيع أكبر، لأن قوانين العرض وانتظار الدور أو القرعة لا تشملهم، ولأن الكثير من الزبائن لا يحبون الإزعاج الناتج عن تجمهرهم حواليهم.
زبناء من المقيمين بالخارج والسياح الداخليين
بين الفينة وأختها، يسحب وليد من حقيبته الظهرية قنينة ماء وقد غلفها بأسمال مبللة لتحافظ على شيء من برودتها في هذا الصيف القائظ، يرتشف منها جرعة أو جرعتين ليسكت عطشه الذي يزيد تناول النبق من شدته لما يسببه من جفاف الحلق، دون أن يغفل الحفاظ على الماء لأطول مدة ممكنة، فالنهار لا يزال في بدايته، ومنزله بعيد، لهذا عليه الجمع بين هذين المتناقضين؛ إطفاء لهيب العطش مع الاقتصاد في الماء في نفس الوقت.
يقول وليد بخصوص الزبائن، إن أكثرهم من المغاربة المقيمين بالخارج يتبعهم بعض السياح الداخليين القادمين من المناطق الداخلية والشمالية (إعرابن).
وفيما إذا كان هؤلاء الزبائن يناقشون الثمن الذي يبلغ عشرة دراهم (حوالي دولار) لكيس بلاستيكي يحتوي على حوالي نصف كيلو من النبق، فإن يوسف المنتقل حديثاً إلى السنة الثانية الإعدادية، يؤكد أن هناك من يصر على تخفيضه، بينما آخرون يتكرمون عليهم بأكثر من المبلغ الذي يبيعون به؛ "أحياناً هناك من يضيف درهمين أو ثلاثة وحتى خمسة دراهم على المبلغ الذي نطلبه، في حين هناك من يلحّ على تخفيضه إلى النصف، المهم أنت ونصيبك" يقول يوسف.
أطفال يجتهدون لتوفير حاجياتهم المدرسية ببيع النبق
يعود إبراهيم قافلاً إلى منزله بعد ساعات، عندما يجود عليه يومه، فإنه يرجع وفي جيبه بين خمسين وثمانين درهماً (بين خمسة وثمانية دولارات)، وأحياناً صفر اليدين. لقد تمكن بعد أكثر من شهر من العمل من جمع ألف وخمسمائة درهم (150 دولاراً تقريباً)، يقول إنه سيخصصها لتوفير اللوازم المدرسية وشراء بعض الملابس والأحذية، وإذا ما تبقى شيء، فسيدخره لما يسميه المغاربة "دواير زمان"، أي المصاريف المستقبلية أو غير المتوقعة التي ستظهر على حين غرّة، كالحاجة إلى دفاتر وأقلام مع منتصف السنة الدراسية أو للمشاركة في نشاط أو رحلة مدرسية أو دوري في كرة القدم.
انتهت عطلة الصيف، فعاد هؤلاء الصبية إلى مدارسهم ليتم تقويم مكتسباتهم في السنة الدراسية الماضية!
عاد وليد وزملاؤه إلى فصول الدراسة بعدما اقتنى أدواته المدرسية وبعض الملابس من السوق الأسبوعي بتغزوت نايت عطا، وبقيت في جعبته ثمانمائة درهم (ما يعادل 80 دولاراً)، أما اسماعيل فقد تمكن من توفير ستمائة درهم، سيكنزانها كأقرانهما من أطفال هذا الهامش الفقير لتأمين بعض الضروريات المستقبلية.
أطفال أكبرهم سناً لا يتجاوز 14 سنة، عوض أن يكونوا في المخيمات والمسابح والشواطئ والورشات الفنية ودور الشباب للاستفادة من أنشطتها الثقافية والرياضية الصيفية، تلاميذ عوض أن يستفيدوا من رحلات مجانية لأهم المواقع السياحية والتاريخية ويستمتعوا بعطلتهم، تجدهم يعرضون النبق للبيع وقد اسودت وجوههم من شدة الحر لقاء دريهمات ينوون استثمارها لتوفير مستلزمات عام دراسي كامل، من دفاتر وأقلام وأحذية وملابس.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.