من الممكن والطبيعي أن أي مجتمع بشري سيموت. لكنه لن ينتهي، إذا بقيت ثقافته ومن يُخلدها عبر الفن والشعر والموسيقى والأدب. هل مات أرسطو أو مات نيتشه أو دانتي أو طاغور؟ هل ماتت فرجينيا وولف؟ هل مات مجتمع خلّفه جان جاك روسو أو مرّ به فولتير أو غويا أو سلفادور دالي أو بيكاسو؟
في مدينة اسمها آسفي على الساحل الأطلسي المغربي، تسكنها السكينة، وتنعدم فيها التنمية، لا أحد يفهم كيفَ يعمل المسؤولون على شأنها بإتقان على إنهاء معالمها التاريخية وثقافتها وتاريخها وفنها، تارةً عبر ترك مآثرها التاريخية للزوال ولعوامل التعرية والانهيار، وتارةً أخرى، يلحقون بها الأذى عمداً، دون رحمة، ولا إيمان بالثقافة، وكأنهم لم يلجوا المدرسة يوماً.
في هذه المدينة الشاحبة، التي وصفها المؤرخ ابن خلدون بحاضرة المحيط الأطلسي وزارها ذات زمن وزير غرناطة لسان الدين بن الخطيب وأُغرم بوصفها في كتاباته، وهي المدينة التي فتنت ملك البرتغال الدُون إمانويل الأول وشيّد بها كاتدرائية بهندسة فريدة من نوعها على طول وعرض شمال إفريقيا أهداها لزوجته، وهي المدينة التي كان الراحل الحسن الثاني مغرماً بفنون طبخها وحرص طوال حياته على الأكل من أطباق خزفها المذهب، هي نفسها التي غمرتها أغطية الرداءة والفوضى وتزاوجت مع التيه والنسيان حتى إشعار آخر.
هذه الآونة، قامت عمالة المدينة -ولاية المدينة تحت إشراف وزارة الداخلية المغربية- ببناء كتل إسمنتية تحجب المعلمة التاريخية "قصر البحر"، وهي المعلمة التي تؤرخ الحقبة الاستعمارية البرتغالية، واكتمل بناء قصر البحر عام 1523، وقام المسؤولون ببناء هذه الكتل الإسمنتية دون المراعاة للقيمة المادية والتاريخية لهذه المعلمة التاريخية، وذلك بهدف بناء "كشك" أو مقهى تجاري، وتدخلوا لاحقاً لهدم هذه الفضيحة بفضل يقظة حماة التراث، على رأسهم علماء آثار وموظفون بقطاع الثقافة.
في دولة تحترم نفسها، من الغرابة أن يحمي التراث محبوه والمهتمون به والمثقفون فقط، بل إن ذلك من مسؤولية أجهزة الدولة، وواجب عليها توفير حمايته ورعايته والاهتمام به، لكن ما يجري في هذه المدينة، هو العكس تماماً، حتى راح البعض يعتقد أن هذه المدينة خارج سلطة الدولة المغربية، في إشارة إلى "التسيب" الذي يُمارسه الموظفون الصغار في وزارة الداخلية الملحقين بهذه المدينة؛ لأن هذه المآثر، عادةً ما تكون محمية بظهائر سلطانية ومصنفة كتراث وطني.
حتى أدولف هتلر الذي سفك دماء البشر وبطش وخلخل العالم كان رقيقاً حين جاء الأمر للثقافة والفنون. تحول لإنسان ودود ولو بالسرقة، ولو بتدمير ثقافة وفنون الغير. كان يعلم تماماً ماذا يعني أن يفني جسده ويحيا مُتحف أو كنز والكثير من المآثر، أما الحلفاء فعملوا جاهدين تلك الأيام لإرجاع كل شيء. لكن شيئاً قليلاً جداً فقط هو الذي عاد.
خرج الجنود ليحموا الكنوز والموسيقى واللوحات والتماثيل. وأسسوا خلية عسكرية أطلقوا عليها اسم "رجال الآتار"، كان ذلك يشكل جزءاً من المهمة الوطنية والإنسانية، فالوطن المحظوظ فقط هو الذي ينتشر به الفنانون، والأكثر حظاً هو الذي يملك جيشاً يحمي الفنون.
بذلت جهود وأرواح ومات جنود لحماية اللوحات المستهدفة أو البحث عن المسروق منها، لم يكن الهدف مونييه أو سيزان أو جوخ، بل ما حققه هؤلاء الفنانون. كانت المهمة تقضي بحماية الوجود البشري للمجتمعات.
بعض المسؤولين لا يفهمون أنه حينما تقتل التمثال وتريق عمره وحين تحطم القطع الأثرية وتحرق اللوحات والكتب لأنها لا توافق هواك، فإنك تنهي أمر المجموعة البشرية المنتجة، تخفيها من الوجود فلا يبقى لأهلها أثر بعد فنائهم، كما حدث في العراق مؤخراً على يد داعش.
وما بين هتلر وداعش، هناك آسفي، لم تكن محظوظة لأنها ببساطة لا تملك أعداء هتلر وجنود حماية الآثار، فكان السقوط، الثقافي، والإنساني مدوياً، لذلك طال معالمها النسيان ودمرت مآثرها التاريخية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.