ترددتُ كثيراً في الكتابة عن "العنصرية"، آفة العصور والأزمان، التي نعاني منها ومن نتائجها ليومنا هذا، ولكن رأيي تغيّر جذرياً بعد "التقاعد المبكر الإلزامي" كما أسميه، والذي حسدتني عليه صديقتي الأمريكية، لأن الدول المتقدمة اقتصادياً في العالم تحاول تأخير التقاعد لموظفيها، لكي تستفيد من الخبرات والمعارف المتراكمة لديهم، طبعاً على عكس الدول العربية، التي تخفض سن التقاعد كلما سنحت لها الفرصة، لعدم قدرة اقتصاداتها على خلق فرص العمل للتغلب على مشكلة ارتفاع معدلات البطالة عندها.
أظن أن كره العنصرية والاشمئزاز من التمييز والتعصب والتطرف متجذّر في جيناتي الوراثية منذ الصغر، فبعض ذكريات الطفولة عندي مترسخة في خلايا دماغي وذهني ليومنا هذا، وأحب أن أسميها "المعالم الهامة" في حياتي، منها قصتي مع "حليمة السمراء".
التحقت بالصف الأول الابتدائي في أوائل السبعينيات، وشعرت برهبة شديدة من كامل التجربة المدرسية، لأني لم أرغب في الانتقال إلى العالم الواسع والغامض، والذي كان يقع خارج النطاق الآمن المتمثل بعائلتي ومجتمعي الصغير.
قام والدي بمرافقتي في أول يوم دراسي، وقام بمشاركة مديرة المدرسة بتشجيعي والتخفيف من مخاوفي، ولم تنجح محاولاتي الحثيثة لإقناعه بعدم جدوى التحاقي بالمدرسة. توالت الأيام الدراسية ببطءٍ شديد، وكنت لا أزال أشعر بالوحدة، وخاصةً خلال فترة الاستراحة، فالتلميذات كنَّ يمرحن ويلعبن في مجموعات حتى تنتهي الاستراحة، أما أنا فكنت أختفي وراء حاجز الخجل والرهبة، وأنعزل في زاوية بعيدة، وعزائي الوحيد أن أمي كل صباح كانت تُحضر لي ساندويتش الزبدة ومربى المشمش اللذيذ، وكنت ألتهمه بوقت قياسي خلال فترة الاستراحة.
كنت جالسة كالعادة في بقعتي المنزوية في يوم ربيعي جميل، أستعد لتناول ساندويتشي المفضل، ولكنني سمعت خلفي صوتاً خافتاً يقول: هل تريدين أن تستبدلي ساندويتش اللبنة والزعتر خاصتي بساندويتشك؟ فالتفتّ ورائي، ورأيت فتاةً صغيرة ممتلئة الوجه وداكنة اللون، لها عينان حالكتا السواد، تلمعان وتنشران حولها شعاعاً دافئاً من البراءة والطيبة.
وافقت على الفور، وتبادلنا الساندويتشين، وأصبحنا صديقتين مقربتين، لكني لاحظت أن تلميذات صفي يتجاهلنها وكأنها غير موجودة، جاءت يوماً إحدى التلميذات وسألتني عن سبب صداقتي لها، فأجبتها بعفوية فورية وبراءة طفولية، لِمَ لا؟ فارتبكت الفتاة وتلعثمت وتراجعت، وأكملنا أنا وحليمة اللعب معاً دون إكتراث.
اشتدت صداقتنا، ودعوتها يوماً لزيارتي في منزلي لكي نلعب معاً بعد الانتهاء من أداء الواجبات المنزلية، لم تخيِّب حليمة ظني، وجاءت إلى منزلي بعد الظهيرة، وكنا منهمكتين في اللعب في حديقة المنزل، فسمعت صوت والدي يناديني، وكان جالساً على مقعده المفضل تحت ظل أغصان شجرة الليمون الكبيرة وهو يقرأ الصحيفة، سألني مباشرة مَن تكون حليمة، فسردت له تفاصيل لقائنا في المدرسة، فسألني: لماذا اخترتِها من بين جميع الفتيات في المدرسة لمرافقتكِ في اللعب حتى بعد دوام المدرسة؟ فأجبته: لأنها مرحة وتحب الألعاب التي أحبها، ولأن بقية الفتيات لا يرغبن في اللعب معها، ولا أدري ما السبب.
ابتسم أبي وقال لي: لا تهتمي ببقية الفتيات ورأيهن بحليمة، واستمري بصداقتكِ لها. بعد انتهاء المرحلة الابتدائية افترقنا أنا وحليمة السمراء، ولم ألتقِ بها بعد ذلك. الذي أودّ أن أعبّر عنه من خلال قصتي السابقة أنها كانت أول تجربة لي فيما يخص التمييز والعنصرية في مجتمعاتنا، مع أني لم أستوعب مدى خطورة هذه الممارسات وآثارها السلبية على الكثير من الأفراد المهمشين والمستضعفين إلا بعد التحاقي بالجامعة وخوض معترك الحياة بعد ذلك.
تجربتي الثانية بدأت عندما أحسستُ بالمعنى الحقيقي للإحباط عند مشاركتي في اجتماعات العمل، وكيف كان يتم تجاهلي بطريقة منهجية مقصودة من زملائي الموظفين، وحتى من قِبل المدير العام، وكنت أشعرُ أكثر الأوقات أني غير مرئية، وكأني أعيش في بعد آخر.
العامل المشترك في تلك الاجتماعات أني كنت الأنثى الوحيدة المشاركة، ولولا توصية مستشارة البرنامج التنموي الأجنبية لما حصل ذلك. الأمر الآخر أن معظم الاجتماعات تتخللها وصلة من النكات الساخرة، والتي تستهدف النساء، خلال إحدى الاجتماعات كنت أحاول المشاركة في النقاش الدائر، وكالعادة تم تجاهلي، ولكني تفاجأت بأحد زملائي الداعمين وكانوا قلة، يهمس في أذني قائلاً: ارفعي صوتك أكثر، نفّذت نصيحته ورفعت نبرة صوتي، ونجحت الحيلة، وصار الجميع يستمعون وينتبهون لمشاركاتي في نقاشات العمل بعد ذلك.
معاناتي لم تنتهِ عند ذلك، فالعقبات كانت عديدة وغير متوقعة، اكتشفتُ أن هناك توجهاً عاماً خفياً لوضع العراقيل أمامي ومنعي من الترقية، مع أن مهاراتي وقدراتي في العمل كانت من المفروض أن تُسهم بسرعة في بلوغي أهداف التطور المهني. لاحظت أنه يتم استثنائي حتى من الترشيح للمشاركة في المؤتمرات الدولية التي تعقدها الدول المانحة الأجنبية، حتى قامت وكالة اليابان للتعاون الدولي (جايكا) بالاشتراط على المؤسسات التنموية بإتاحة الفرصة لجميع موظفيها دون استثناء، للتقدم لامتحان القبول في المؤتمرات التي يتم عقدها في اليابان بمشاركة جميع الدول النامية في العالم. تقدمت لذلك الامتحان وحصلتُ على أعلى درجة بين زملائي وزميلاتي في المؤسسة، وأظن أن سر تفوقي كان نتيجة التعوّد على بذل جهود مضاعفة، مقارنةً بزملائي من الجنس الآخر، لإنجاز الأعمال المطلوبة مني لكي أحصل على بعض التقدير من رؤسائي. وافقت الإدارة العليا "على مضض" على إرسالي لذلك المؤتمر الدولي، وكانت المرة الأولى والأخيرة، ولكني استفدت كثيراً من مشاركتي تلك، وانعكس ذلك إيجاباً على عملي في مؤسستي.
أما التجربة الثالثة فكانت الأغرب، وكان ذلك خلال مكوثي لفترة قصيرة في مدينة شيكاغو، ولسوء حظي كان ذلك في بداية عام 1996، عندما بلغت درجات الحرارة هناك أدنى مستوياتها، أثناء محاولتي الفاشلة للحصول على منحة دراسية من جامعة إلينوي. خلال فترة الانتظار اقترحت عليَّ صديقتي الالتحاق بدورة مجانية في مهارات المحادثة باللغة الإنجليزية للطلاب الأجانب، تنظمها إدارة كنيسة قريبة من الحرم الجامعي. قمت بالانتساب لتلك الدورة، ولاحظتُ أن معظم المشاركين كانوا من جنسيات شرق آسيوية، وجميعهم من رعايا تلك الكنيسة. أثناء فترة الاستراحة كنت جالسةً وحدي أشرب القهوة، فاقترب مني القس الذي يقوم بتدريسنا مبتسماً، وطلب إذني بالجلوس ومحادثتي، فوافقت على الفور، فلقد شجعتني صديقتي على الاختلاط بالأمريكيين لكي أتقن التحدث باللغة الإنجليزية بأسرع وقت ممكن.
قام القس بالاستفسار عن المعلومات الأساسية التي تخصني، وعن هدفي من المشاركة في الدورة، طبعاً حاولت الإجابة عن أسئلته العديدة والسريعة بإنجليزيتي الضعيفة، حتى فاجأني بسؤاله عن عدم اكتراثي لحقيقة وجودي في كنيسة مع رعاياها مع أني مسلمة. فكرتُ قليلاً قبل الإجابة عن سؤاله الغريب، على الأقل بالنسبة لي، وقلت له إن والدي علَّمني ضرورة احترام وتقبل جميع الأديان، وحسب اعتقادي وبعد قراءتي لبعض المعلومات عن الأديان السماوية الثلاثة وحتى غيرها، فإن العامل المشترك بينها أنها تركز على المبادئ الأخلاقية الأساسية، كما جاء في الوصايا العشر، بالإضافة لذلك فأنا مقتنعة بأن "الله" الذي نؤمن به كمسلمين، هو نفس الإله الذي يعبده أتباع الديانات الأخرى.
ضحك القس من مدى سذاجتي، وقال لي إنه كان يتمنى لو أن الموضوع بهذه البساطة، لكي يعُّم السلام في العالم، ولكن المشكلة أن أتباع أي ديانة مقتنعون أن إلههم ومعتقداتهم هي الأصح، لذا تكثر الصراعات والحروب المدمرة في العالم، وهي مستمرة منذ ألوف السنين، وستظل كذلك في المستقبل ما دامت الأنانية موجودة والتسامح مفقوداً بين أتباع الديانات المختلفة. محادثتي مع ذلك القس في شيكاغو كشفت لي عن أمور هامة وخطيرة كنت أجهلها، عن القناعات والمعتقدات البشرية المختلفة، وفوق كل ذلك عن المطامع والمخططات الخفية للقوى العظمى في العالم.
الذي استوعبته وفهمته بعد سنين طويلة من الدراسة، والتعرف على تاريخ وخبرات ومعارف المجتمعات العالمية، أنه إذا لم نغيِّر من أنماط التفكير لدينا والأحكام والمبادئ التي تتم صياغتها حسب أهوائنا ومصالحنا الشخصية والمصبوغة بحب الذات والجشع، وأخص هنا القادة والزعماء الذين يتحكمون بمصائر الأمم، وخاصة الفئات المهمشة منها، مثل النساء والأطفال، فإن نهاية كوكبنا الجميل، الأرض، ستكون مثل نهاية كوكب سوبرمان، كريبتون، لكن هل سنجد كوكباً آخر تستطيع البشرية اللجوء إليه قبل وقوع الفاجعة، مثلما حصل مع سوبرمان، عندما هبط بمركبته الفضائية وهو طفل صغير على الأرض، بعد انفجار كوكبه، نتيجة الصراعات والحروب ما بين شعوبها، وأصبح في شبابه بطلاً وحامياً لكوكب الأرض. أتمنى من كل قلبي أن تتكسر السقوف الزجاجية، وألا تظل أزلية، لكي نتفادى الكارثة المنتظرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.