لم تَعد لدينا نحن المعاصرين علاقةُ بعالم الفُروسيّة. هكذا أستهلّ هذا المقال، الذي سأحاول فيه إحياء فلسفة ونفسيّة الفارس وكيف يكون منهجه في كلّ زمان ومكان، فالفروسيّة ليست فقط في حمل السّيف واعتلاء الفرس واقتحام الثغور وإعلاء الرايات، هذا جزءٌ من جزءٍ من الفروسية، فالفروسيّة شقّان، شقّ نفسي، وهو الذي سأستفيضُ فيه، وشقّ عملي، والعمليّ ينقسم لعدّة أجزاء، من بينها جزء المعارك.
فما الذي يدفع المرء إلى المعارك والمقاومة بشكل عام، وما الذي يجعله لا يعرف ما الخوف وما الشك والريبة، كيف يهمّ الفارس صوبَ هدفه وهو يعي المخاطر، هذه الجزئيات ليست سوى ترجمة لنفسيّة عظيمة جداً، أكبر من مجرّد رجل يحبّ معاركة الناس.
الإنسان المُعاصر يُشبه دون كيشوت في رواية "سيرفانتيس"، أوّل رواية حداثيّة ومعاصرة، كأنها فاروق بين العالمين في مجال الفروسية.
فحتى لو أرادَ دون كيشوت أن يعيش بتلك الطريقة من البسالة والشجاعة، فالعالمُ المحيط به يتنصّل من كل أخلاق الفروسيّة، إلى أن يبدو أحدنا مجنوناً يحاربُ الطواحين. فرواية "سيرفانتيس" أظهرت أن العالم بدأ يسخر من الفروسية وأخلاقها، وأن "الفارس المتديّن" فكرة قد عفا عليها الزّمن. ذلك أن المجتمعات قد بدأت في تلك الحقبة تتّجه شيئاً فشيئاً لفكرة التخلّي عن المروءة والفحولة لصالح الحداثة والسهولة والخضوع للرقابة العامّة مقابل المال.
إلى جانب دون كيشوت، لدينا شخصيّة نقيضة له وهي سانشو بانثا، الرجل البدين فوقَ حماره كما يصوّره سيرفانتيس، الذي يمثّل الرجل الحداثيّ بامتياز، رجل يبالغ في العقلانية والسلامة والحذر، براغماتي يسبّق مصلحته وحماية ذاته عن خوض أي تجربة أو مغامرة خطرة في سبيل أحلامه أو دفاعاً عن ثوابت معيّنة.
المثير في هذه الرواية التي آثرت الانطلاق منها، ذاك ألا رواية تضاهيها عبرةً لموضوعي هذا، فلا يُعرف إن كان سيرفانتيس يسخر من الفروسية أم ينعى نهايتها، فقدّ رواها بشكل يترك للقارئ استخلاص ما شاء، وقد كان هو بنفسه فارساً، والمعروف أنه سُجنَ هنا لفترة في الجزائر العاصمة إبان الحكم العثماني بعد معركة ليبانت الشهيرة بين التحالف الأوروبي والدولة العثمانية، "ويروى عنه أنه حاول الفرار، بيدَ أن من معه فشلوا في إخراجه، وعندما أرادَ الحرس معاقبتهم قال لهم عاقبوني أنا لوحدي".
هذا وقد رويَ أن يده قد قُطعت في تلك المعركة، وقد كان البعض يسخرون من إعاقته، فكان ذلك يؤلمه ويقول إنه قد فقدها في معركةٍ سيذكرها التاريخ للأبد، ولم يفقدها في أشياء سخيفة.
فمن عاشَ تجارب الفروسية، وكان شاعراً أو أديباً في نفس الوقت، لن تستطيعَ أن تلمس في نصوصه محل النعي والسخرية والجد والهزل، ذلك أن الحبر والورق لا يسع الآلام والتجارب، وقد يضطر الفارس إلى الاختزال بالمعاني والإشارات والرمزيات فحسب. وقد كان هذا القوس الكبير عن قصة سيرفانتيس وروايته، سواء صحّت أم لم تصحّ كما هي، لهي مجرّد مقدّمة لمعرفة الفروسية، معناها، جانبها النفسي، وسبب غسقها.
قبل الشروع في ماهيّة الفروسية، كل البشر المعاصرين يعشقون شخصيات الفرسان، وأخلاق الفرسان، فقد نشأنا على قصص منها حقيقيّة، مثل ما ورد على نبيّنا وأصحابه على رأسهم سيدنا عليّ، الذي كان فتى قريش، وأسد الله الغالب، تلمع أعيننا عندَما نقرأ كيف هزمَ أعتى المحاربين في جولاتٍ يسيرة، ونبقى بلا لسان عندما تنصهر هذه الشجاعة مع أخلاقه العالية وورعه وتقاه، وكذلك سيدنا خالد بن الوليد والكثيرون من بعده. وكذلك كنا نحب مسلسلات زورو وما شابهها من أبطال يستبسلون ولا يهابون الموت في سبيل الحق. لكن هذا الهُيام بشخصية البطل هو حالة "تعطّش" لإشباع "رغبة" شبه مستحيلة في عصر قضى على الفروسيّة من جذورها، والمعلوم أن البشر يميلون لما هو غير موجود، سواء أمور خياليّة فانتازية، أم حضارات من الماضي ذهبت وانقضت، لكن السؤال هو، هل سيسعدُ هؤلاء البشر بحياة الفروسية تلك، وهم الذين اعتادوا أن يُدافع عنهم، وأن يصلهم الأكل والمؤونة إلى البيت، وهل سيتركون الترف حقاً من أجل القيم والمبادئ؟ الجواب هو لا. لكن لحسن الحظ أن للفروسية جوانبَ أخرى يمكنها أن تُجسّد بطرق مختلفة في كل زمان.
فإن الفروسية التي أتحدّث عنها هي الفروسية المعنوية، فلسفة الفتى الفارس التي يستحيل أن تزول ما لم يزل الإنسان من الأرض. فالفروسية ليست مقرونة بالأحصنة والرماح، ولا بالأسلحة والطائرات، بل الفروسية شعور في الأفئدة ومنهج كما ذكرت، يمكن إسقاطه على كل تفاصيل الحياة.
لا يكونُ الفارسُ فارساً حتى يكونَ له أشياء يُقدّسها
والقداسة هنا تختلف من شخص إلى آخر، من ثقافة إلى أخرى، من معتقد إلى آخر، ولكن الفرسان وإن كانوا متضادين في كل شيء، يحترمون فروسيّة بعضهم البعض، بل ويعرفون قدر بعضهم البعض، فللفرسان أخلاق خاصة بعيدة عن البقيّة، ولقد قرأنا وشاهدنا قصصاً لا تكاد تنتهي، في هؤلاء الفرسان الأعداء الذين يمدحون بعضهم البعض.
لا يكونُ الفارسُ فارساً حتى يكونَ متواضعاً
فالتواضع صفة العظماء في كل عصر ومصر، والمتواضع لم يتواضع في الأرض إلى لثقل ما يحمل من أخلاق وعلم وشجاعة.
لا يكون الفارس فارساً وهو يظلم الناس
الفارس شجاع مقدام، ذو أخلاق وهمّة، فلا تراه يعامل الآخر بالقوة والحزم التي معه إلا إذا كان خصمه على سعة من التحمل. كذلك تجد المثقف والعالم والفقيه والباحث يعامل الناس، فهو لا يحتقر ولا يستعلي ولا يظلم بعلمه عامة الناس، بل هو يشتدّ مع قرينه فقط.
لا يكون الفارس فارساً حتى يحترم المرأة
وصلتنا أخبار بالمئين، على شخصيات قوية تربّت يتيمة الأب. فقد كان هؤلاء أبناءً لأمهاتهم، فكانوا أشدّاء أقوياء، وفي نفس الوقت متواضعين ومتخلقين، والفارس الحق يعلم فضل أمه، وبذلك يعلم قيمة المرأة في كل شيء، فهي أم أو ستكون كذلك، ولا تُعامل الأم إلا باحترام، ولا يعاملها بالقوة لأن ذلك من الجبن والحقارة، بل يعاملها باللين مهما حاولت أن تستقوي عليه، فهو يحفظ مكانتها وقلة حيلتها.
لا يكون الفارس فارساً وهو ينكسر للباطل
الفارس صاحب مبادئ، وحياة الفارس هي حياة صراع طوال الوقت، لا يتخللها إلا شيء يسير من الراحة. صراع مع الذات والباطل، فمن ينكسر لهواه انكسر لكل شيء بعده. الفارس لا يتوسّل الطرق الملتوية ولا يخون أبداً، وهو لا يكذب إلا للإصلاح.
لا يكون الفارس فارساً وهو ينتظر المدح والثناء
من يعمل كي يُقال عمل وفعل هو إنسان سخيف وسطحي جداً، من ينتظر الثناء فارغ يريد ملء نفسه بآراء الناس، ومن الناس من يكذب في رأيه وينافق ويتملق، فالمصالح رأس مال البشر، فمن يكسر نفسه ويذلها من أجل سطر من الشكر، ليس له حظ من الكرامة قبل أن يكون له حظ من الفروسية.
لا فروسيّة لأحدٍ دون هدف نبيل
الأهداف الشخصية محمودة، لكنها لا تساوي شيئاً أمام الأهداف العظمى الباقية، وهدف العظماء عظيم مثلهم. فأهداف الفارس هو العطاء للمحيط والأمة والبشرية جمعاء، هدف الفارس أن يضيف أشياء لا أن يسلب ويستهلك فقط، الفارس مِعطاء لا أخّاذ.
هذا جزء يسير من السيرة الذاتية التي يجب أن تصاحب كل مدّع للفروسية، فالفروسية عملية نفسية معنوية وليست وظيفة زمكانية. فالفارس مُحارب نعم، يحارب في كل الميادين الممكنة، وإن لم يعد هناك وجود لميدان الحرب، بقيت آلاف الميادين ليثبت فيها المرء فروسيته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.