زار وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد تل أبيب أوائل الأسبوع الجاري لإحياء الذكرى السنوية الثانية لموجة التطبيع "الثانية" بين الدول العربية وإسرائيل، التي انطلقت مع توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية بالبيت الأبيض في سبتمبر/أيلول 2020.
حاول بن زايد إضفاء طابع عاطفي وحتى تاريخي على المناسبة والزيارة بشكل عام، عبر خشوعه في متحف ضحايا الهولوكست، ثم لقاء رسمي بدا عاطفياً أيضاً مع صديقه رئيس الوزراء يئير لابيد، ثم آخر غير رسمي جمعه بوزير الدفاع الجنرال بيني غانتس في منزل السفير الإماراتي بتل أبيب.
في الأسبوع نفسه أيضاً وضمن السياق التاريخي والعاطفي المصطنع نفسه قررت الحكومة الإسرائيلية رصد ميزانية دائمة لمنتدى النقب الإقليمي الذي يضم إسرائيل والمطبعين الجدد: الإمارات والبحرين والمغرب، إضافة إلى مصر والولايات المتحدة.
الحقيقة أن هذه المبالغة أو "الأفورة" بالمعنى العامي في مصر المحروسة كانت مقصودة ومتعمدة ومنهجية لتضخيم الحدث، والزعم أن موجة التطبيع الثانية تسير كما هو مخطط لها، إلا أن نظرة متمعنة أكثر على التفاصيل والمجريات تظهر أن الواقع عكس ذلك، خاصة في السياق السياسي، حيث كانت الموجة جزءاً من صفقة لحل، أو للدقة تصفية القضية الفلسطينية أو حتى الجانب الاجتماعي، حيث الفشل في إنزال العلاقات إلى المستوى الجماهيري سواء في الإمارات أو البحرين أو المغرب رغم الحميمية والدفء المبالغ فيه رسمياً.
بتفصيل أكثر وفي السياق السياسي، كانت موجة التطبيع الراهنة جزءاً من صفقة القرن الأمريكية التي طرحها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وكانت مرتبطة أو ذات صلة مباشرة بحل، وللدقة تصفية القضية الفلسطينية وفق التصورات أو الرؤى الإسرائيلية في أشكالها اليمينية الأكثر تطرفاً دون مدينة القدس التي اعترف بها ترامب عاصمة موحدة أبدية لإسرائيل، ودون حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى المدن والقرى التي شرّدوا منها في عام 1948، ودون دولة مستقلة ضمن حدود الأراضي المحتلة في عام 1967، ودون سيادة أو تواصل جغرافي لكيان فلسطيني جاء أقرب إلى الجزر المتناثرة المرتبطة مواصلاتياً بجسور وأنفاق، مع تعويض مادي ضخم بمليارات الدولارات العربية "لا الأمريكية طبعاً"، فيما بدا أقرب إلى الابتزاز وانتزاع موافقة الفلسطينيين، ودفعهم إلى التخلي عن آمالهم وحقوقهم الوطنية المشروعة.
لا يقل سوءاً عما سبق تجاهل الصفقة المواثيق والشرعية الدولية وقرارتها ذات الصلة، وتبنيها الرؤية التوراتية الدينية والصهيونية التاريخية للصراع في فلسطين والمنطقة، بما يعني تبرئة إسرائيل من كل جرائمها وممارساتها العدوانية، وشيطنة وتجريم المقاومة الفلسطينية وحتى فعل الصمود والرفض نفسه في مواجهة الممارسات الاستعمارية ضدهم، باعتبار فلسطين أرضاً بلا شعب لشعب بلا أرض، وفق أبرز أساطير الوهم المؤسسة للمشروع الاستعماري.
أسقط الفلسطينيون الشق السياسي من صفقة القرن، ومع رحيل دونالد ترامب أزيلت نهائياً عن جدول الأعمال الفلسطيني والإقليمي والدولي، ورغم سعي الرئيس الحالي جو بايدن لتحديثها بعد الرفض الأولي لها عبر محاولة تحييد بل واحتواء الفلسطينيين ومساعدتهم اقتصادياً أيضاً، ليس للتنازل عن حقوقهم، وإنما للقبول بالواقع الراهن، وعدم كسره أو الانتفاضة عليه، ولعدم التشويش على السياق الآخر المتعلق بالموجة الثانية "الراهنة" من التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل.
كان ثمة شق سياسي أمني في خلفية موجة التطبيع الراهنة يتعلق بإيران وبناء تحالف أو إطار إقليمي عربي إسرائيلي ضدها، وقد سقط أيضاً مع صفقة القرن التي أفشلها الفلسطينيون، وبات الحديث الآن أكثر تواضعاً، ويتضمن مصطلحات مثل هندسة إقليمية، وحتى المنتدى إقليمي، لقمة النقب. ومع رفض والتحفظ على الممارسات الإيرانية في العالم العربي وتبجحها باحتلال أربع عواصم عربية إلا أن المواجهة معها لا تتم بالتطبيع والتحالف مع إسرائيل أو بإعادة إنتاج أنظمة الاستبداد التي أسقطتها الثورات العربية الأصيلة.
أما الجانب الأمني من التطبيع فيسير ولكن ثنائياً وببطء أيضاً، وليس وفق الأمنيات والتطلعات تجاه تحالف أمني وعسكري جماعي علني وصريح ، وذلك إثر رحيل عراب التطبيع دونالد ترامب والتحديات والتطورات العاصفة بالمنطقة من جائحة كورونا إلى الغزو الروسي لأوكرانيا وتداعياته الأممية، التي أظهرت هشاشة الأنظمة العربية وعجزها عن صيانة الأمن القومي في أبعاده المختلفة، بما فيها الأمن الغذائي، وعجز إسرائيل عن تقديم يد المساعدة باعتبارها رغم الدعاية "والبروباغندا" دولة صغيرة غير مستقرة سياسياً في محيط كبير متلاطم الأمواج.
وعموماً بات هذا الجانب يركز أكثر على العلاقات الأمنية العسكرية الثنائية في سياق تقليدي ومحدود، خاصة مع لجوء قائدة موجة التطبيع الثانية "أبو ظبي" الى التطبيع مع أنقرة، وبدرجة أقل طهران، في تعبير واضح وصريح عن قناعتها بعجز التطبيع مع الدولة العبرية عن حمايتها أو حل مشاكلها وأزماتها.
بناءً على ما سبق كله فقد اقتصر، أو للدقة تركز، تطبيع الموجة الثانية مع الوقت على الجانب الاقتصادي، وضمن السياق الرسمي النخبوي أساساً، ولكنه حتى لم يصل إلى ما هو مأمول، أو كما قيل، وأصبحت العلاقات شيئاً فشيئاً تقليدية أكثر فأكثر كما في الموجة الأولى، والتطبيع المصري الأردني الذي ظل رسمياً وبارداً أمام عناد عميق ومتواصل من قبل الشعوب العربية في مصر والأردن.
وفي كل الأحوال عجزت موجة التطبيع الراهنة عن إحداث تحوّل اجتماعي في الشارع العربي، ويظل الرفض الشعبي بالدول الثلاث الإمارات والبحرين والمغرب رغم مكابرة أبو ظبي كما رأينا في زيارة بن زايد الصغير الأخيرة إلى إسرائيل.
لابد من الانتباه كذلك إلى أن المآلات النهائية للموجة الثانية من التطبيع لن تكون مختلفة ولو بالعموم عن الموجة الأولى لجهة إقامة علاقات رسمية بين إسرائيل والأنظمة أساساً بعيداً عن الشعوب العنيدة الرافضة، كما العجز عن عدم حلّ مشاكل وأزمات الأنظمة العربية المستعصية الناتجة أساساً عن سياسات وتوجهات داخلية خاطئة لتلك الأنظمة، تماماً كما رأينا في الحالة المصرية والأردنية.
إضافة إلى ما سبق كله ستواجه الموجة الثانية من التطبيع، كما الأولى أيضاً، صعوبة بل استحالة تجاوز القضية الفلسطينية أو إزاحتها عن جدول الأعمال نتيجة مقاومة الشعب الفلسطيني العنيدة والمستمرة لنيل حقوقه الوطنية المشروعة، وإثبات وهم تجاوز قضيته أو الالتفاف عليها من هذا النظام العربي أو ذاك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.