من منا لا يذكر شكل ـ وربما حجم ولون ـ سور المدرسة التي درس بها؟ إذا كنت عزيزي القارئ قد عشت طفولتك في بلد عربي وكنت تذهب إلى المدرسة فربما لا يزال منظر تلك الأسوار "العالية" التي كانت تحيط بمدرستك عالقاً بذهنك وذاكرتك..
أنا شخصياً تنقلت بين عدد من المدارس في بلدي، صحيح أنني لا أذكر بالتفصيل شكل ولون الأسوار التي كانت تحيط بتلك المدارس، إلا أنني أتذكر جيداً أنه كانت هناك دوماً "أسوار" كئيبة تتفاوت فقط في طولها وأحجامها، لكنها كانت ـ وما زالت ـ دائماً هناك، كما أتذكر أيضاً المحاولات العديدة التي كان يقوم بها بعض الطلاب لتسلق تلك الأسوار والهروب من المدرسة!
لذا فإن من أكثر المناظر التي رأيتها في ألمانيا وفي بلدان أوروبية أخرى وما زالت تستوقفني كلما صادفتها إلى الآن هو مشهد المدارس التي لا تحيط بها أية أسوار، ومع ذلك يتواجد جميع الطلاب أطفالاً كانوا أم مراهقين في المدرسة طوال وقت الدوام، أو في ساحاتها أثناء وقت الفسحة، لا يفر منهم أحد أو يقرر أن يغادر المدرسة عبر بابها "المفتوح" دائماً أو عن طريق تجاوز تلك الأسوار بالغة القصر، التي تعطي للمدرسة حدودها وشكلها الخارجي فقط، ويمكن لطفل صغير أن يتخطاها بكل بساطة!
وفي كل مرة أمرّ فيها بجوار أي مدرسة من هذه المدارس أجد نفسي أتوقف مبهوراً أمام مشهد التلاميذ وهم يلعبون ويلهون في ساحات المدرسة الواسعة، وعلى بُعد أمتار قليلة من أبوابها المفتوحة وبجوار أسوارها بالغة القصر، ومع ذلك لم أرَ أو أسمع عن تلميذ واحد جرّب القفز من فوق السور أو حاول عبور الباب إلى خارج المدرسة أثناء أوقات الدوام! طبعاً هذه المشاهد لا تستوقف الناس هنا، فهي من الأمور الروتينية التي ألفوها ونشأوا عليها منذ الصغر، لكن بالنسبة لمن جاء من خلفية مختلفة مليئة بـ"الأسوار" مثلي فإن عدم وجود أسوار للمدارس هو مشهد لافت يستحق الوقوف عنده، بل والتأمل فيه أيضاً..!
ففي بلداننا العربية يختلف الأمر كثيراً للأسف، ومنظر الأسوار الضخمة معتاد وشائع للغاية، فهي موجودة ومنتشرة أينما ذهبنا، ففي اليمن على سبيل المثال أسوار تحيط بالمدارس، وأسوار تحيط بالبيوت، وأسوار تحيط بالمباني والشركات والمنشآت الحكومية، بل إن هناك أسواراً تحيط بمساحات شاسعة وخالية من الأراضي الجرداء! فبالنسبة لهذه المجتمعات تمثل الأسوار جزءاً مهماً في حياة الناس، والهدف منها في العادة هو الحماية وطلب الأمان و"إبعاد" المتطفلين والمتلصصين، أما بالنسبة للمدارس والجامعات، فربما كان الهدف من تلك الأسوار هو إبقاء الطلاب واحتجازهم داخل المكان إلى أن ينتهي الدوام "والسؤال المنطقي هنا هو: ولماذا لا يبقون هناك بمحض إرادتهم؟"، وأيضاً حماية هذه الأماكن من "دخول" أي عناصر خارجية لا تنتمي لها، ولأن هذه الأسوار مفروضة بشكل مُبالغ فيه، فإن محاولات تجاوزها لا تتوقف في كلا الاتجاهين من الداخل إلى الخارج والعكس.
بل إن تلك المحاولات قد تنتهي أحياناً بنهايات مأساوية، ما زلت أذكر في أحد المرات، وكنت حينها تلميذاً في المرحلة الإعدادية، وبينما نحن جلوس في الصف شاهدنا من النافذة محاولة فرار أحد الطلاب الذي قام بتسلق سور المدرسة المرتفع "يتجاوز طوله الأمتار الأربعة"، وحين حاول المسكين النزول إلى الجانب الآخر، قام بالتشبث ببعض كابلات الكهرباء الممدودة كي يحفظ توازنه وللأسف صعقه التيار الكهربائي فوراً ومات! ولو أن شخصاً ممن تعوّد على ارتياد المدارس التي لا تحيط بها الأسوار رأى ذلك المشهد المرعب لما تصور للحظة أن هذا "الهارب" البائس هو مجرد طالب أراد الفرار من مبنى المدرسة، ولظن أن الأمر يتعلق بمجرم خطير يقضي فترة عقوبة مؤبدة في أحد السجون المخصصة لعتاة المجرمين أو أنه سفاح محكوم عليه بالإعدام لذا حاول أن يفر من المكان كي يُنقذ حياته أو يستعيد حريته!
أما عندما يتعلق الأمر بالبيوت، فإن الأسوار في بلادنا قد يتجاوز ارتفاعها الأمتار الأربعة، خصوصاً تلك التي تحيط بمنازل الأغنياء والمسؤولين وذوي النفوذ، ومن المشاهد المألوفة في اليمن أن ترى الكثير من المساكن الكبيرة أو "الفيلات" الفخمة، وقد أحاطت بها أسوار مرتفعة ممتدة على طول البصر، أما البيوت العادية فتحيط بكثير منها أسوار أقل ارتفاعاً وإن كانت ـ إذا ما قارناها مثلاً بأسوار البيوت في أوروبا ـ تُعد مرتفعة ومبالغ في طولها وحجمها وامتدادها، فالأسوار التي تحيط بالبيوت في المدن الأوروبية تكون في العادة لأغراض جمالية أو لتمييز حدود البيت الخارجية، كما أن الأسوار نفسها قصيرة جدا ويمكن تجاوزها بسهولة ولا أذكر أبداً أنني رأيت في أي بلد أوروبي زرته أسواراً عالية مثل تلك الموجودة في البلدان العربية.
إن الوجود المُبالغ فيه للأسوار وضخامة أحجامها قد يكون مؤشراً عملياً على طبيعة المجتمع وثقافته، ففي المجتمعات المتحضرة التي تسود فيها سلطة القانون والتي تهتم أيضا بمخاطبة الفرد منذ الصغر بأساليب واعية وتزرع فيه الوعي بالقواعد و الآداب العامة منذ وقت مبكر وبطرق عملية، هذه المجتمعات لا تنتشر فيها الأسوار العالية ولا يشعر أفرادها بأن الأسوار ـ إن وُجدت ـ مفروضة عليهم، وتتولد لدى الجميع صغاراً وكباراً ما يُعرف بـ"الرقابة الذاتية"، فيذهب الطفل إلى المدرسة ويبقى بداخلها بإرادته ورغبته، وليس لأن "الأسوار" تمنعه، ولا يقوم الكبار "في العادة" بتجاوز أسوار الغير؛ لأن المجتمع يرفض هذا السلوك ولا يمارسه ويعاقب أيضاً من يرتكبه، والعكس في المجتمعات المتخلفة التي ينتشر فيها الظلم و تغيب فيها سلطة القانون ولا تهتم بالتوعية المبكرة للقواعد والآداب العامة، ففي هذه المجتمعات يحاول الكثيرون الفرار من القيود التي يفرضها وجود الأسوار متى ما سنحت الفرصة وكانت هناك "ثغرة" في السور تسمح بالهروب أو حتى بالتلصص واستراق النظر عبرها، لأن الرقابة الذاتية واحترام خصوصيات الغير ثقافة لم يتربَّ عليها للأسف كثير من أفراد هذه المجتمعات "المسورة"! وكلما ارتفعت الأسوار وعلت زادت الرغبة لدى البعض في محاولة تسلقها أو تخطيها، سواء للفرار منها أو لمعرفة ما الذي يدور وراءها.
لذلك وكما قلت آنفاً، فإن هذه المشاهد التي أراها هنا، سواء كان مشهد التلاميذ الذين يلهون في فناء المدرسة على بُعد أمتار من بابها المفتوح أو مشهد البيوت التي لا تحيط بها أي أسوار، ستظل هذه المشاهد تستوقفني دائماً وتجعلني كلما رأيتها أتنهد وأردد في سري "اللهم ارزق بلداننا أسواراً أقل انخفاضاً وسلوكيات أكثر ارتفاعاً!"
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.