أخذ موقف حركة حماس الأخير من عودة العلاقة مع سوريا ونظام بشار الأسد حيزاً من الجدل والنقاش، بين أنصار النظام السوري، الذين ظلوا ينتظرون اللحظة الذي تمد فيها الحركة يدها للنظام، ليؤكدوا "خطأ" الحركة في خروجها من سوريا وقطع العلاقات مع نظام الأسد، ويحاولوا تكريس مصطلح "عودة حماس إلى حضن النظام السوري". وبين أنصار حركة حماس الذين يرون في تطبيع العلاقات مع النظام السوري خطأ وانزلاقاً كبيراً.
دخل هذا الجدل مساحة الاتهام والتخوين، بدل النظر العميق والرؤية الموضوعية لمثل هاته الخيارات، ومدى تحقيقها للأهداف وانسجامها مع الرؤى الاستراتيجية، وكلها تدخل في إطار الاجتهاد والتقدير السياسي.
ولعل روح العداء والعدمية والمعادلة الصفرية، الذي ما زال يتملك بعض أبناء التيار الإسلامي، والذي تسبب في كثير من الإخفاقات في إدارة الخلاف الداخلي، أو مع الأنظمة القائمة، وأنتج فشلاً في مد الجسور ورسم العلاقات السياسية، ما جعلها في شبه عزلة ومحاصرة، وبعيدة عن الفعل السياسي.
ومع بداية رسم معالم السياسة الجديدة بعد الحرب الأوكرانية، والاصطفاف من أجل عالم متعدد الأقطاب، ومن خلال محاور رئيسية وفرعية مساندة. كمحور "واشنطن – تل أبيب"، ويسنده محور التطبيع العربي "تل أبيب – الرباط"، ومحور "روسيا – الصين" ويسنده محور "محور القدس والدول الممانعة للتطبيع" وهذا الأخير في بداية التشكيل.
ليأتي الحديث عن عودة العلاقة مع سوريا، الذي يشكل جزئية لا تبتعد عن الترتيبات لهذا المحور. وواجب على حركة حماس أن تواكب تطورها العسكري الميداني، بتطور في أدائها السياسي والدبلوماسي، وقد مكنها ذلك من التفاوض السياسي من موقع قوة، حققت به إنجازات في العلاقات وصل إلى أحد دول المركز العالمي، روسيا، ومقابلة وزير الخارجية سيرجي لافروف، ونجحت في تعزيز علاقات مع دول عربية ممانعة ومانحة للقضية الفلسطينية مثل الجزائر، جلوساً على منصة الاستعراض العسكري رفقة الرئيس عبد المجيد تبون.
دون مقايضة أو شروط
آلت الحركة على نفسها ألا تكون طرفاً في أزمة داخلية أو خارجية، وخرجت من سوريا برغبة منها وفي هدوء، ولم تتنكر للجميل، ولم تنحز إلى طرف، ولم تنخرط في فتنة هوجاء، أو تتورط في دماء السوريين، كما تورط غيرها، وبقيت بوصلتها وبندقيتها موجهة نحو العدو المحتل لا غير، وغادرت طواعية ونظيفة اليد واللسان والبيان.
وهي اليوم تمد يدها للجميع وتحاول تطوير العلاقات وتصفير العداوات، بما يخدم الأمة والقضية معاً. ومن ثم جاءت الاستجابة لعودة العلاقة مع النظام المصري، الذي طالما اتهمها بالتخابر والإرهاب، من أجل رفع الحصار عن قطاع غزة، وتحريك ملف الأسرى في سجون الاحتلال، وكذا النظام السوري الذي طالما اتهمها بنكران الجميل، وهو يقبل اليوم عودة العلاقة مع الحركة "وهي العبارة المناسبة"، إذا كان الحديث عن علاقة بين "دولة وحركة".
ولا شك أن هاته الأنظمة تدرك أهمية حركة حماس، ومدى مصداقيتها واستقلالية قرارها. وليست الحركة بغنية عن مساعدة أي كان، دون مقايضة أو مساومة، فتستقبل المساعدات من إيران، وهي تعلن عن المساعدات العسكرية في ظل الحصار العربي، دون مقايضة أو شروط. فلا تجد في غزة أو الضفة شيعياً ولا حوزة ولا شعاراً واحداً للشيعة أو حلفائهم.
وتقدم كل من قطر وتركيا الكثير من المساعدات في قطاعات البناء والصحة والتعليم والبنية التحتية عبر وكلائهم، وتستضيف كبار قادتهم، يمارسون نشاطهم السياسي على أراضيها وتنقلهم بكل حرية، دون أي مضايقة أو مقايضة أو ضغط أو تدخل في القرار. فلا زالت قرارات الحرب والهدنة بيد المكتب السياسي الذي يضم عدداً من القيادات العسكرية وعدداً من الأعضاء متواجدين في الدول العربية المختلفة على تناقض مواقفها.
ولم يثنِ الحركة أن تستجيب لرغبة عودة العلاقة مع النظامين المصري والسوري رغم وجود أغلب قيادتها في دول كانت في صراعات سياسية مع هذين البلدين إلى وقت قريب.
إدارة المقاومة
لقد أثبتت حركة حماس تمسكها بالمبادئ، وتكسر مشروع "صفقة القرن" على صخرة سلاح المقاومة، ورفضت مقايضته بكل الضغوط والتهديد والإغراءات الكبيرة، ووعود بالرفاه الاجتماعي والحياة الرغيدة وبناء ميناء ومطار وناطحات السحاب.
والموقف الأخير الذي صفق له دهاة السياسة عندما أحجمت عن دخولها الحرب الأخيرة، في حالة من ضبط النفس والانسجام بين قيادتها، وبين وباقي الفصائل، ولم تنخرط في حرب استنزاف يدفعها إليها حمقى السياسة لأهداف انتخابية. فجنبت شعبها الدماء والخسائر، وحرباً قد تطول بسبب عناد ومكابرة الكيان بحثاً عن انتصار شكلي.
لندرك حالة التطور في الرؤية والتدبير في إدارة المقاومة والشأن السياسي، في توليفة متكاملة تصنع من حركة المقاومة الحركة الواعية التي تشكل مركز الثقل ومحور التوازن العربي والإسلامي ومحور التقاء الأمة واجتماعها على القضية الفلسطينية.
دون أن ننكر على هاته الاجتهادات الخاطئة أحياناً في التقديرات السياسية من مكتبها أو بعض قياداتها، أو بعض الاختلافات في الرؤى داخل صفها، والعاصم دائماً هو المؤسسات القوية واللوائح الضابطة، والشورى القائمة والتربية العالية، وبركة الجهاد والدماء الزكية ودعاء الصالحين من أبناء هاته الأمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.