حين غادر المخرج التونسي المبدع شوقي الماجري دنيانا سنة 2019 مخلفاً غصة وحزناً عارمين في نفوس كل محبيه من المحيط إلى الخليج؛ ذلك أنه كان قريباً من الجميع في مختلف أعماله فكان بحق فارساً عربياً أصيلاً ترجل فترك فراغاً كبيراً في الوسط الفني العربي وهو من انبرى للذود عن جرح مخيم جنين كما وثق خراب بغداد وبكى لنزيف الدم السوري وروى أشهر حكايات التاريخ العربي وظل يتنقل حاملاً هموم هذه الشعوب وأميناً على توثيقها بعدسته الذهبية التي اتحفتنا بمسلسلات لن تنسى من قبيل "الاجتياح" الذي حصد جائزة الإيمي العالمية و"عمر الخيام" و "أسمهان" و"الطريق الوعر" والأمين والمأمون" و"حلاوة الروح" و "إخوة التراب 2" وآخر أعماله كان "دقيقة صمت" من بطولة عابد فهد.
المهم أن الحديث عن ابن "باب سويقة" في تونس الخضراء لن يكون من الهين علي شخصياً ترويضه فقد أستفيض وأطيل وأسرد كل تفاصيل مساره منذ عودته من بولندا؛ حيث درس الإخراج ثم إقناعه من قبل الفنان السوري أيمن زيدان عن طريق الممثل فتحي الهداوي بضرورة خوض أولى تجاربه الإخراجية العربية عبر الجزء الثاني من مسلسل "إخوة التراب" دون أن يدور في ذهنه أنها ستكون البوابة التي ستقوده نحو كل بيت عربي وأنه لاحقاً سيتبنى كل القضايا العربية في أعماله ويصبح رقماً صعباً في عالم الإخراج يحلم أي ممثل بأن يقود دفة مسلسله؛ لأنه على يقين أن النجاح وبر الأمان في انتظاره.
لكن أعود وأقول إن شوقي الماجري ومساره ليس موضوعنا الرئيسي؛ غير أنه هو المنطلق نحوه وبدونه لن يكتمل الحديث، فمع رحيله ظننا أن فرص وصول مخرج تونسي آخر لما بلغه قد يكون أمراً صعباً ومعقداً، وأن أقصى طموحات الأجيال الجديدة تتوقف في العمل بالجارتين الجزائر وليبيا أو في الضفة الأخرى بالقارة العجوز تحديداً؛ لأن المواهب التونسية لا تنضب؛ غير أننا نعني هنا تحديداً الشق العربي في ظل الاهتمام الكبير بالغرب وبسط الفرنسية هيمنتها على الفضاء والهواء في تونس الخضراء.
لكن ما نراه اليوم يناقض ويبدد كل مخاوفنا السابقة من خلال ما نعاينه من "اكتساح" تونسي للدراما العربية استكمالاً لما بدأه شوقي الماجري؛ فها هو مجدي السميري يشق طريقه نحو القمة، وصار موضع ثقة كبيرة من لدن صناع أهم وأضخم الإنتاجات مؤخراً فمن مسلسل "اختيار إجباري" في مصر مع كريم فهمي وخالد سليم إلى مسلسل "النحات" مع باسل خياط وأمل بوشوشة وفيلم "الثلاثاء 12" مع باسم ياخور ونيللي كريم وأيضاً مسلسل "8 أيام" مع مكسيم خليل والإنتاج الضخم "من إلى" مع النجم قصي خولي وفاليري أبو شقراء وغيرهم؛ والملاحظ أن مجدي كرس اسمه مع نخبة من ألمع النجوم العربية وأمامه كل المستقبل لتحقيق المزيد.
ومؤخراً ظهر أيضاً اسم المخرج "الأسعد الوسلاتي" للقائمة بعد نجاح مسلسل "الحرقة" بجزأيه الأول والثاني في تونس، والذي تصدى من خلاله لقضية الهجرة السرية وحقق العمل نسب متابعة كبيرة، وخلف ردود فعل جيدة للغاية؛ فقد أسندت إليه مهمة إخراج مسلسل "غومة" الذي سيعرض على إحدى المنصات العربية والعالمية قريباً عن شخصية "غومة المحمودي" شيخ قبائل المحاميد وزعيم المنطقة الغربية في ليبيا في الفترة الممتدة بين 1831 و1858 وهو من بطولة نخبة من الفنانين العرب نذكر منهم التونسية القديرة منى نور الدين والسوري رشيد عساف والليبي عبد السلام التركي واللبنانية ستيفاني صليبا والمغربي محمد مفتاح وآخرون.
وبعد الانتهاء من هذا العمل سيكون الأسعد الوسلاتي مع إنتاج ضخم آخر برعاية شبكة الـ"إم بي سي" السعودية؛ ليخرج إذن من غمار المنافسة المحلية لفضاء العربية الرحب؛ في انتظار أن يلتحق بسرب المحلقين عربياً اسم آخر أتوقع له شخصياً أن يحقق نجاحاً كبيراً، لاسيما أنه شخصية مميزة وله نظرة ثاقبة ورؤية مهمة وأقصد سليل عائلة بوشناق الذائعة الصيت المخرج الشاب عبد الحميد بوشناق الذي أتمنى صادقاً أن تلتفت إليه المنصات العربية وشركات الإنتاج الكبيرة؛ لأنه سيصبح رقماً صعباً، ومن يريد أن يتأكد من ذلك عليه بمشاهدة أعماله السابقة سواء فيلم "دشرة" أو مسلسلات "النوبة" و"كان يا مكانش".
المحصلة إذاً أن "المدرسة التونسية في الإخراج" ما زالت تثبت جدارتها عربياً؛ رغم إصراري على أن رسالة شوقي الماجري ثقيلة جداً وعبء كبير على الآخرين؛ لأنه ببساطة صاحب رؤية ومواقف بعيدة كل البعد عن الشق التجاري والأعمال السطحية التافهة؛ فهل تتجنب الأسماء الجديدة الوقوع في الفخ وتكمل الرسالة الهادفة إياها؟
نرجو ذلك..
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.