يسعى الخطاب الديماغوجي، الذي يروجه بعض الفاعلين السياسيين والمدنيين والاقتصاديين الفرنكفونيين، إلى إيهام المغاربة بأن المسألة اللغوية بالمغرب مسألة تقنية صرفة، يمكن أن نغير فيها، زيادة ونقصاناً، كما نشاء!
ولذلك، فإن اعتماد اللغة الفرنسية، في التدريس، بديلاً للغة العربية هي مسألة تقنية صرفة يقررها الخبراء. وفي حجاجه من أجل فرنسة التعليم المغربي، يروج التيار الفرنكفوني للدور العلمي الريادي الذي يمكن أن تقوم به اللغة الفرنسية في منظومة التعليم!
لكن، فحصاً دقيقاً لهذا الخطاب الديماغوجي يؤكد أن الأمر لا يعدو أن يكون خيالاً جامحاً أو "متخيلاً" بتعبير المفكر إدوارد سعيد في حديثه عن الاستشراق، بمعنى أنه لا يمت إلى الحقيقة الواقعية بأي صلة، إنه يجد سنده التبريري في الإيديولوجية الفرنكفونية التي روجت للغة والثقافة الفرنسية كمدخل رئيسي نحو التحضر، وهذا ما يجد فيه الكثير من وكلاء الفرنكفونية ضالتهم في التعويض النفسي عن بؤس الواقع الذي أنتجهم، ويعيدون إنتاجه بنفس المعايير الرديئة.
إن الأمر، بهذا المعنى، لا يعدو أن يكون نوعاً من الاستلاب أو الاغتراب الذي تصل درجته القصوى حينما يدفع صاحبه إلى التوهم أنه بإمكانه أن يسلخ جلده الأسود في أي لحظة حتى يرضي أسياده الفرنكفونيين!
وهو بذلك، يسقط في فخ الشخصية المستلبة استعمارياً، كما حللها "فرانز فانون" من منظور سيكو-سوسيولوجي في كتابه الرائد "بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء".
هذا الكتاب يُشرِّح، بشكل دقيق، نفسية الفرنكفوني المُضطهَد من خلال تشريح نفسية المستَلَب الأسود الواقع تحت سيطرة المُستَلِب الأبيض. فمن الأمراض التي تعاني منها الشعوب المستعمرة، حسب فانون، هو مرض التماهي مع المستعمر والشعور بالدونية والرغبة في الانتماء للأقوى. وهذه أخطر أشكال العبودية "عبودية الروح" التي تتجاوز عبودية الأغلال المادية.
إن هذه الشخصية الفرنكفونية المُستَلَبة التي يكرسها الخطاب الاستعماري، هي نفسها التي تم ترسيخها من طرف بعض الكتاب مرتدي الأقنعة البيضاء، في المغرب العربي مثل: الطاهر بن جلون وإدريس الشرايبي ورشيد بوجدرة وأحمد الصفريوي. وجميع هؤلاء يشتركون في صياغة صورة نمطية عن الحضارة العربية الإسلامية، وهي صورة تتحكم فيها مرجعية استشراقية فجة نظرت إلى الشرق كمتخيل وليس كواقع، وقد وجد صانع الكتاب الفرنسي ضالته في مثل هؤلاء الذين لم يكن لهم حظ من التكوين العلمي الأكاديمي، ووظفهم من أجل الترويج لأساطيره حول النموذج الفرنسي المتحضر الذي يتم تقديمه كبديل للنموذج العربي الإسلامي المتخلف!
وقد قامت هذه الكتابات الفولكلورية، بتعبير الأستاذ عبد الله العروي، بدور خطير في تشكيل صورة نمطية عن الذات العربية الإسلامية، لدى المتلقي البسيط الذي لا يمتلك أدوات النقد والتحليل، وخصوصاً لما تم إدماج بعضها ضمن المقررات الدراسية في التعليم الثانوي التأهيلي.
ونحن هنا، لا نعمم هذه الصورة على كل الأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية، بل إن هناك من الكتاب الذين يمتلكون وعياً فكرياً عميقاً مكنهم من الفصل بين لغة الكتابة ومتخيل الانتماء، فاستطاعوا توظيف اللغة الفرنسية من أجل الدفاع عن الحق الثقافي العربي في الاختلاف. ولذلك، فقد نجحوا في تجاوز الصورة الفولكلورية لثقافة الشرق، وتمكنوا من تشكيل صورة حضارية متميزة للثقافة العربية، وقد ساعدهم على ذلك إدراكهم الفكري لجوهر مفهوم الاستقلال التاريخي. وهذا ما تمكن من صياغته، فكرياً وسردياً، مفكر وروائي موسوعي وعميق جداً، هو أمين معلوف، ابن الأكاديمية الفرنسية! الذي صاغ صورة موضوعية للشرق/الجنوب في أعماله الروائية.
اللغة بين المعرفي والاجتماعي
يستند الخطاب الفرنكفوني، في تقييمه لوضعية اللغة العربية في مجال التداول العلمي، إلى معطيات اجتماعية متغيرة. لكنه، يتجاهل أن توطين المعرفة العلمية فعل معرفي ثابت يلبس لباساً اجتماعياً متغيراً. وهذا، يؤكد على تهافت المدخلات النظرية التي تنطلق من كون المعرفة العلمية فعل اجتماعي، مما يحكم على المخرجات النظرية بنفس التهافت!
وبناء على هذا التحليل العلمي، فإن اللغة العربية تستند إلى براديغم معرفي صلب، يمكنها من التفاعل مع النسق العلمي. وهذا ليس وهماً، لأن اللغة العربية تمكنت، قديماً، من التفاعل مع النسق العلمي اليوناني، وانتجت كبار العلماء في مختلف التخصصات العلمية. وبإمكانها، اليوم، أن ترفع التحدي وتنجح في التفاعل مع النسق العلمي الحديث.
هذا، يؤكد على تهافت الأحكام الإيديولوجية الرائجة، حول فشل اللغة العربية في التفاعل مع النسق العلمي الحديث، وهي أحكام يمكنها أن تنطلي على العامة، لكنها لا تنطلي على الباحث المعرفي الذي يدرك الخلفية السوسيو-كوليانية، التي تتعامل مع حضارة الشرق كمتخيل، وليس كواقع. اللغة العربية مؤهلة، معرفياً، للتفاعل مع النسق العلمي الحديث، لكنها تحتاج للتأهيل الاجتماعي في علاقة بمعطيات الواقع العربي.
في نقد مغالطة إكراهات الواقع
في حجاجه من أجل فرنسة التعليم المغربي، يستند الخطاب الديماغوجي الفرنكفوني إلى معطيات مُزيِّفة للإشكالية المطروحة. فهو يعتبر أن مبرر فرنسة التعليم المغربي يستند إلى إكراهات الواقع، التي تؤكد صعوبة الانتقال من مرحلة تلقي العلوم باللغة العربية، في الثانوي التأهيلي، إلى مرحلة تلقي العلوم باللغة الفرنسية، في التعليم الجامعي. لذلك، يجب تعميم الفرنسية!
لماذا نعتبر هذا النقاش مغلوطاً ومُزيِّفاً للإشكالية المطروحة؟
يجب أن نعرف، أولاً، أن تعريب التعليم ليس مسألة تقنية يمكن أن نضيف إليه أو ننقص منه، في أي حين، تعريب التعليم المغربي يستند إلى الشرعية الدستورية التي تؤكد على الطابع الرسمي للغة العربية، وهذه المرجعية الدستورية هي التي أسست للإصلاحية التعليمية القائمة على المبادئ الأربعة (التعريب، المغربة، التوحيد، التعميم) وهي إصلاحية تعليمية تحمل أبعاداً استراتيجية، لأنها رؤية مؤسسة للمنظومة التعليمية بالمغرب.
ولعل هذه الرؤية هي التي تحكمت في الإصلاح الاستراتيجي الذي أطره الميثاق الوطني للتربية والتكوين، والذي نص، بشكل صريح، على المكانة المركزية للغة العربية في نظام التربية والتكوين.
هذا، يعني أن المسار الصحيح الذي كان من المفروض أن تنهجه الدولة، هو مسار تعميم التعريب على جميع الأسلاك التعليمية. فبعد نجاح تجربة التعريب في الثانوي التأهيلي، وهذا تؤكده الإحصائيات على مستوى شواهد البكالوريا العلمية، وارتفاع نسبة البعثات الطلابية نحو الخارج، وعدد خريجي كليات الطب والمدارس العليا للهندسة، كان المفروض هو الانتقال إلى تعريب التعليم الجامعي. وذلك، باعتماد استراتيجية واضحة تستند إلى تطوير اللغة العربية، أكاديمياً، ونهج طريق واضح نحو ترجمة العلوم من النبع-اللغة الإنجليزية، مع تأهيل الفاعلين التربويين والأكاديميين، علمياً، لقيادة هذا الإصلاح الوطني الكبير.
اللغة بين المعرفة والإيديولوجيا
إن المدخل الرئيسي لمقاربة موضوع الفرنكفونية بالمغرب هو، أساساً، مدخل معرفي يسعى إلى الفصل بين معطيات الواقع الموضوعي باعتبارها امتداداً للتحليل العلمي، وبين الأوهام والهواجس النفسية التي توظف الإيديولوجيا بهدف تحريف (من الانحراف) الوعي الجمعي لخدمة أجندتها الفئوية الخاصة. ولذلك، لا بد أولاً أن نميز بين اللغة الفرنسية كمكون أساسي ضمن المشهد اللغوي العالمي، وبين الفرنكفونية كتوظيف إيديولوجي للغة والثقافة الفرنسية لخدمة أهداف سياسية واقتصادية ذات بعد استعماري خالص.
بخصوص اللغة الفرنسية، فهي كباقي اللغات الحية في العالم، تخضع لقانون "السوق اللغوية" كما صاغه السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو، ولذلك يجب التعامل معها من منظور ثنائية العرض والطلب. فهي باعتبارها لغة أجنبية، لا بد أن تحقق أرباحاً مادية (بمعنى أرباح خاضعة للقياس) كمعيار لتحديد أولويتها في الخارطة اللغوية، فبقدر استفادتنا منها يجب التعامل معها كغنيمة حرب، كما عبر عن ذلك كاتب ياسين، لكنها بمجرد أن تفقد جدواها من خلال تراجعها في السوق اللغوية، يمكن تعويضها بلغة أجنبية أخرى أقدر منها على جلب الأرباح، بالمعنى المادي الخالص.
ولعل هذه المنهجية في التعامل، هي التي توجه الكثير من التجارب العالمية، وخصوصاً في آسيا، حيث تتم المحافظة على لغة الهوية (اليابانية، الصينية، الكورية…) كلغة أساسية في التدريس والتواصل، ويتم اللجوء إلى لغة أجنبية قادرة على تحقيق أرباح مادية في علاقة بالعالم الخارجي، وإذا كان اللجوء إلى اللغة الإنجليزية هو السائد، فإن ذلك لا يعود إلى خلفيات إيديولوجية، بل يتحكم فيه قانون السوق اللغوية.
أما بخصوص الإيديولوجية الفرنكفونية، فالأمر هنا يتجاوز، بكثير، توظيف لغة أجنبية بأهداف ربحية خالصة، إنه جزء من الهيمنة الاستعمارية الفرنسية على جزء من الامتداد الإفريقي، مما نتج عنه استئصال ثقافي ولغوي للغات وثقافات الهوية، وتم استبدال ذلك بمكون ثقافي ولغوي هجين، تم فرضه من خلال العنف المادي والرمزي، وذلك بهدف تحقيق الإلحاق الحضاري للشعوب الإفريقية بالامتداد الفرنسي.
ولعل هذا هو ما يوضح علاقة الامتداد التي تقيمها منظمة الفرنكفونية مع وزارة المستعمرات التي كانت تناط بها، خلال المرحلة الاستعمارية، مهمة إدارة المستعمرات, ولأن الاستعمار الفرنسي كان، في الأساس، استعماراً ثقافياً ولغوياً، فإن المهمة التي كانت تقوم بها وزارة المستعمرات – وما زالت تقوم بها منظمة الفرنكفونية اليوم- هي وظيفة الإلحاق الثقافي واللغوي، وما ينتج عنه، طبعاً، من إلحاق اقتصادي يمر عبر السيطرة على المستعمرات، لأطول وقت ممكن، من خلال تحقيق استمرارية استغلالها اقتصاديا، سواء كمناجم للمواد الأولية وأيدٍ عاملة رخيصة، أو كسوق استهلاكية.
الفصل بين البُعدين المعرفي والإيديولوجي
حينما نثير الحديث عن حضور الفرنسية، في الواقع الثقافي واللغوي المغربي، فإن المطلوب، بإلحاح، هو الفصل بين البعد المعرفي، وبين البعد الإيديولوجي. فعلى المستوى المعرفي، لا يعارض الانفتاح اللغوي إلا جاهل ! ونحن من دعاة الانفتاح الثقافي واللغوي على العالم، لإثراء تجربتنا المغربية وتحقيق أكبر قدر من التواصل مع التجارب العالمية الرائدة. لكن، هذا لا يعني غض الطرف عن استغلال شعار الانفتاح اللغوي، من طرف اللوبي، الفرنكفوني لتحقيق أجندته الفئوية الرخيصة على حساب مقومات الهوية الوطنية، ثقافيا ولغويا، مما ينذر بخلق جيل فاقد للتوازن النفسي والاجتماعي، كنتيجة مباشرة لما يتعرض له من عنف ثقافي ولغوي في بيئته السوسيو-ثقافية الحاضنة، سواء من خلال توظيف وسائل الإعلام، أو من خلال توظيف منظومتي الثقافة والتعليم.
إن هذا الفصل، بين البعدين المعرفي والإيديولوجي، بإمكانه أن يضع النقط على الحروف، في ظل واقع اختلط فيه الحابل بالنابل! وأصبحت الشعارات الفارغة الجوفاء بديلاً للتفكير النقدي المتحرر من القيود الإيديولوجية المكبِّلة. فدعاة الإيديولوجية الفرنكفونية من "مثقفي التزييف" بتعبير المفكر الفرنسي باسكال بونيفاس يمارسون عنفاً مادياً ورمزياً خطيراً على مقومات الهوية الوطنية، مدججين بأسلحة إيديولوجية فتاكة مستعارة من المنظومة الاستعمارية الموؤودة على أيدي الحركة الوطنية المغربية، وهم مدعومون، في ذلك، بقوة الرأسمال الاقتصادي الناتج عن اقتصاد ريعي يتحالف فيه التيار الفرنكفوني مع الشركات الفرنسية المحتكرة للمجال الاقتصادي المغربي خارج التنافسية الشفافة.
وفي ظل هذا التحالف المشبوه، يجد المواطن المغربي نفسه غريباً عن ثقافته ولغته الوطنية التي صوت على دسترتها، وذلك لأن توازنات الواقع العملي أقوى من الدستور نفسه، فإذا كان "دستور 2011" ينص، بشكل صريح، على الطابع الرسمي للغة العربية، ويدعو إلى حمايتها وصيانتها وتطويرها، فإن الواقع العملي يبوئ اللغة الفرنسية كلغة رسمية أولى(!) بل إنه يفتح أمامها، في كل يوم، أبواب جديدة لتحقيق الهيمنة على المشهد الثقافي واللغوي المغربي، مما يهدد خصوصيتنا الثقافية واللغوية التي راكمها المغاربة، لقرون، وفي نفس الآن يفتح علينا أبواب المجهول لنتحول من دولة قائدة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، إلى بقعة جغرافية تابعة للعاصمة الاستعمارية الفرنسية، لا تساوي شيئاً في الميزان الاستراتيجي الدولي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.