كان يا ما كان، منذ سنوات من الزمان، صور غريبة قاتمة تعبث في ذهني، تأتيني على شكل كوابيس في ليلي، صور مخيفة لا أعرف مصدرها، تطرق خيالي وتحاصرني عندما أسبح في آفاق نهاري، لم يدُر في ذهني يوماً أن هذه الكوابيس أو الصور هي الحقيقة المجردة القاسية التي مررت بها باكراً في طفولتي، عادت تطرق أبوابي.
كنت آنذاك في الرابعة من عمري، قد تقولون إنه يصعب على طفلة في الرابعة أن تتذكر، ولكن تفاصيل مملوءة بالألم لا تزال محفورة في ذاكرتي، رغم أن ذهني يصوّرها لي وكأنها خيالات ليس أكثر، أو ظلال قاتمة أود طردها، ولكنها تتشبث بذاكرتي بقوة، وتستعصي على النسيان وتصر، ربما لأنها أوقات لا تُنسى، أراني أتذكر؟ حسناً، أصغوا إليَّ جيداً لأروي لكم الحكاية:
قُطع الماء والكهرباء والخبز والوقود عن المخيم في البداية، كان الناس يقولون إن هناك من يتأبطون شراً بالمخيم، وسمعت أُمي تقول: ليس هناك ما هو أسوأ من القتل، أذكر الكلمات دون أن أعقل.
أيام ثلاثة طويلة، طويلة جداً مرعبة قاسية، الحرّ فيها شديدٌ، وكأن تموز قد عاد مرة أُخرى بحرارته اللاهبة، وبلغت القلوب الحناجر، حالة من الضياع، أعجز عن التعبير عنها بالكلمات.
سمعتُ صارخة تقول منتحبة: لقد أمروا الرجال بالاصطفاف في طابور طويل، فتيان شباب شيوخ كهول، أخذوهم تحت تهديد السلاح ومضوا بهم إلى المجهول.
لم أفهم ما يجري، برغم المشاعر السوداء التي أحكمت قبضتها على روحي، لم يعد أحد من الرجال ليروي ما حدث، ولكن الدماء والأشلاء وشت بتفاصيل الجريمة بعد مضي الأيام الثلاثة الأقسى في تاريخي الذاتي على الأقل.
قالت منتحبة أُخرى: أمروا النساء بالبقاء في البيوت، إذن هن بعيدات عن الفتك والموت!
أو هكذا ظننَّا للوهلة الأولى، ربما رحمة بأنوثتهن أو ضعفهن، لا أدري تحديداً، كل شيء مشوش في ذهني، ولكني اكتشفت لاحقاً أني كنت موغلاً في الخطأ، هنَّ لم يسلمن: اغتصاب وذبح وبقر لبطون الحبالى، يا إلهي، رحمتك بنا!
حتى الأطفال الصغار تربصت بهم سكين اللحام، وذُبحوا ذبح الأنعام، أذكر جيداً مشاعر الهلع التي انتابتني آنذاك، ولا تزال المشاعر ذاتها تنساب في روحي كلما زارتني تلك الذكريات، وبرغم صغري بدأت أُدرك معنى "التشبث بالبقاء".
وكأن قراراً بالإعدام الجماعي قد صدر بحق المخيمين وأهلهما صبرا وشاتيلا، لا أدري كيف أو لماذا؟ تحديداً في السادس عشر من سبتمبر/أيلول، كما تؤكد الأوراق، وتذكروا أن التاريخ لم يكن يعني لي شيئاً آنذاك.
في الصباح الباكر تفجَّر الرعب في النفوس مع صوت الانفجار الأول الذي دوّى في الأرجاء، وكأن جهنم قد فغرت فاها في تلك الأثناء، تبعته ثمانية وأربعون ساعة من القتل والذبح والتنكيل، جثث ممزقة مشوهة في الشوارع وهنا ذبيح وقتيل، دماء، أشلاء، أهوال، وعويل.. كل شيء ها هنا متوجس يشي بهلع عليل، ومن لم يُقتل تم اعتقاله واقتيد مطأطئ الرأس ذليلاً.
لا أدري ما حدث مع أُختيَّ وأُمي من بعدي، ولا أدري لمَ هربتُ أنا تحديداً برفقة عمتي وجدتها، وقد قبضت على كفي بقوة وسحبتني، مررنا من طرق ضيقة كان الموت قد سبقنا إليها سائراً على أقدام من حديد، وحصد بمنجله كل ما تسنّى له من أرواح، وكان كل شيء أمامه مباحاً.
مررنا بثكالى رأيت الموت في نظراتهن التائهة ووجوهن الشاحبة، ينتحبن بلا وعي، ويركضن يمنة ويسرة بلا هدف أو دليل، ويبحثن بغير هدى عن أحباء لهن مضوا، وانقطعت بهم دروب العودة من المجهول، رأيتهن يسألن بحيرة واستنكار وصدمة عمّا جرى، عن ذنب آلاف الضحايا الأبرياء: لماذا؟ لماذا؟ هل هذا معقول؟
لا أدري كيف نجوت، ولا كيف استشهدت عمتي، وكأن شريط الذكريات قد اقتطع من هنا وأُلصق من مكان آخر يكمل الطرف الآخر من الحكاية.
حكاية وجودي وسط عائلة احتضنتني وربّتني وتابعت الحياة الطبيعية بين أفرادها، ولكن هل ينسى الشريد اللاجئ تاريخه الذي بالظلام الحالك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.