مع إطلالة الذكرى الأربعين لمجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا، ومع التحليل العميق لارتكاب تلك المجزرة الرهيبة وغيرها من المجازر بحق الشعب الفلسطيني، التي كانت جزءاً من مأساة فلسطينية طويلة بدأت عام 1948، بإقامة دولة "الكيان الصهيوني" وطرد الشعب الفلسطيني من أرضه قسراً، حيث تعتبر المجزرة عام 1982، امتداداً لسياسة صهيونية قديمة، تتمثل في تهديد منظمة التحرير الفلسطينية، أو حتى محاولة القضاء عليها لتعطيل التنظيم الاجتماعي للشعب الفلسطيني لضمان تشتيتهم.
فمذبحة مخيمي صبرا وشاتيلا لم تكن حادثة منعزلة عن سياق المشروع الصهيوني و"المؤامرة" التي خططت لها القيادة العليا "الإسرائيلية" وميليشيات الكتائب اللبنانية، وقد تأكد من خلال الوثائق والحقائق أن "المجزرة لم تكن عملاً انتقامياً عفوياً لمقتل بشير الجميل، بل عملية مخطط لها مسبقاً بهدف إحداث نزوح جماعي للفلسطينيين من بيروت وأجزاء أخرى من لبنان".
فسماع الشهادات والروايات المتعددة وقراءة المستندات التاريخية المتعلقة بالأحداث ليس بالأمر اليسير وكذلك الخوض في التفاصيل، وكشف الحقائق، يعيد إلى الأذهان ما حصل من وقائع رهيبة وفظائع يندى لها الجبين، عندما دخلت ميليشيات الكتائب مخيمي صبرا وشاتيلا بعد ظهر يوم الخميس 16 سبتمبر/أيلول، بالتنسيق مع القيادة العسكرية لجيش الاحتلال "الصهيوني"، الذي كان قد عقد حينها اجتماعات مع ميليشيات الكتائب، وتورّط جهات أمريكية في مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا، التي وقعت عام 1982 في لبنان، وأسفرت عن مقتل ما بين 3500 و5000 شخص أعزل، معظمهم من الفلسطينيين.
وثائق وشهادات تكشف اللقاءات قبل وقوع المجزرة
وفق ما جاء في الوثائق السرية التي كشف عنها الباحث الأمريكي في جامعة كولومبيا سيث أنزيسكا في كتابه الجديد، (الملحق) وفيه تفاصيل اللقاءات التي جمعت بين مسؤولي الموساد والاستخبارات "الإسرائيليين" وبين مسؤولي الكتائب اللبنانية، وما جرى بينهم دقيقة بدقيقة، قبل وخلال وقوع المجزرة.
وخلال البحث في ملفات وزارة الخارجية آنذاك، عثر الباحث على محضر اجتماع في 17 سبتمبر/أيلول بين وزير الحرب "الإسرائيلي" آنذاك شارون ومبعوث الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط موريس درايبر، جرى على ضوء مجزرة صبرا وشاتيلا، ثم نشره لاحقاً في "نيويورك تايمز" كاشفاً ما جرى في الاجتماع، بما لا يترك مجالاً للشك بأنه تمّ التحضير لها جيداً لتكون أحد فصول الاعتداءات المرعبة، بهدف ترهيب سكان المخيمين من الفلسطينيين، ومن خلفهما المحيط الجغرافي اللبناني الممتد من الضاحية الجنوبية لبيروت، وصولاً إلى ما كان يعرف ببيروت الغربية، ولتكون أيضاً عملية انتقامية من مخيم شاتيلا على وجه التحديد، والتي كان بالإمكان تفاديها، حسب قول الباحث الأمريكي سيث إنزيسكا.
حقيقة ما دار بين شارون ودرايبر
بحسب وثيقة تعود لتاريخ 17 سبتمبر/أيلول 1982، فإن اجتماعاً جرى بين وزير الدفاع "الإسرائيلي" شارون، ومبعوث الرئيس الأمريكي للشرق الأوسط، مورس درايبر، طمأن فيه شارون المبعوث الأمريكي بعدم توريط أمريكا في الجريمة قائلاً: "إذا كنت متخوفاً من أن تتورط معنا، فلا مشكلة، يمكن لأمريكا بكل بساطة أن تنكر الأمر أو علمها به، ونحن بدورنا سننكر ذلك أيضاً".
وهو ما يؤكد أن "الإسرائيليين" كانوا على علم بأن حلفاءهم من ميليشيات الكتائب، دخلوا المخيم، وأن عمليات قتل وتصفية عشوائية قد بدأت.
في أحد اللقاءات التي جرت بين الموفد الأمريكي وشارون بحضور السفير الأمريكي، سام لويس، ورئيس الأركان "الإسرائيلي" إيتان، ورئيس الاستخبارات العسكرية يهوشوا ساغي، ذكّر درايبر بموقف بلاده المطالب بانسحاب قوات جيش الاحتلال "الإسرائيلي" من بيروت؛ فما كان من شارون إلا أن رد قائلاً: "إن الإرهابيين- حسب وصفه- لا يزالون في العاصمة، ولدينا أسماؤهم، وعددهم يتراوح ما بين 2000 و3000″، متسائلاً: "من سيتولى أمن المخيمات؟"، وجاء رد درايبر بأن الجيش وقوى الأمن اللبناني ستفعل.
وبعد مفاوضات توصل الطرفان إلى اتفاق يقضي بانسحاب قوات الاحتلال "الإسرائيلي "من لبنان، لكن بعد 48 ساعة، حيث سيكونون طهروا المخيمات .
ولم يترك شارون طاولة الاجتماع إلا بعد أن تأكد من خلو الاتفاق من أي التباس، شارحاً بالاسم المخيمات التي سيدخلها لتصفية "الإرهابيين"، وهي صبرا وشاتيلا، برج البراجنة، والفاكهاني، وعندها بادره دابر بالقول: "لكن البعض سيزعم بأن الجيش (الإسرائيلي) باق في بيروت لكي يسمح للبنانيين بقتل الفلسطينيين".
فما كان من شارون إلا أن رد قائلاً: "سنقتلهم نحن إذاً، لن نُبقي أحداً منهم، لن نسمح لكم (ويقصد للولايات المتحدة)، بإنقاذ هؤلاء "الإرهابيين"، وبسرعة رد درايبر قائلاً: "لسنا مهتمين بإنقاذ أحد من هؤلاء"، فكرر شارون ثانية: "إن كنتم لا تريدون أن يقتلهم اللبنانيون فسنقتلهم بأنفسنا"، فأعاد عندها السفير درايبر موقف الحكومة الأمريكية قائلاً: "نود منكم الرحيل.. دعوا اللبنانيين يتصرفوا".
مشاهد القتل المرعبة
بعد هذه المحادثة بثلاثة أيام بدأ الانسحاب "الإسرائيلي"، نهار الجمعة، 17 سبتمبر/أيلول، وشهد هذا النهار أسوأ لحظات المجزرة، قوات الثورة الفلسطينية كانت بالفعل قد أخلت بيروت، وبعد ليلة ثانية من الرعب، وذبح الأهالي بالسكاكين والفؤوس، واغتصاب النساء والفتيات، حينها بدأ اللاجئون الفلسطينيون المصابون في الوصول إلى مستشفى غزة شمال صبرا طالبين الحماية من الفرق الطبية.
في صباح يوم الجمعة 17 سبتمبر/أيلول، دخلت دفعات جديدة من ميليشيات الكتائب في ذروة الهجوم، قدّر عددهم بحوالي 400 فرد، واستمر القتل طوال ذاك اليوم.
كانت الجثث ملقاة في الشوارع، متروكة تحت الأنقاض أو جُرفت في مقابر جماعية، ورأى شهود عيان العديد من السكان يتكدسون في شاحنات ويخرجونهم من المخيمات إلى وجهات مجهولة، لا أحد يعرف ماذا حل بهم لغاية اليوم، إنهم "المفقودون" من مذبحة مخيمي صبرا وشاتيلا.
وصلت الأنباء الأولى عن المجزرة للصحفيين من اللاجئين الفارّين، في وقت مبكر من صباح يوم السبت 18 من شهر سبتمبر/أيلول، أمرت ميليشيات الكتائب سكان المخيمين بواسطة مكبرات الصوت بالاستسلام، قاموا بجمعهم في الخارج، وفصلوا اللبنانيين عن الفلسطينيين، والرجال عن النساء، وأعدموا بعضهم، وأطلقوا سراح البعض الآخر، وألقوا ببعضهم داخل شاحنات وأجبروا غالبية الرجال على دخول ملعب المدينة الرياضية، حيث استجوبهم ضباط "جيش الاحتلال الإسرائيلي" وميليشيات الكتائب.
في غضون ذلك، توجهت مجموعة من رجال الميليشيات إلى مستشفى غزة، وطلبت من الفريق الطبي الأجنبي مغادرة المبنى، وقتلت العناصر العربية.
︎ مذكرات جورج شولتز.."توبيخ ريغان لبيغن"
بعد أن أعلمه موفده بفظاعة ما جرى في المخيمات، كتب السفير درايبر إلى شارون قائلاً: "هذا رهيب، لدي ممثل في المخيمات وهو يعُد الجثث، يجب عليكم أن تخجلوا"، ومن جانبه وبّخ الرئيس الأمريكي ريغان رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بيغن بعبارات قاسية غير معتادة.
وفي مذكراته، كان وزير الخارجية الأمريكي جورج شولتز الأكثر قسوة فكتب: "الإسرائيليون قالوا لنا إنهم يدخلون بيروت لتفادي حمام دم، لكنه تبين أنهم سهلوا هذا الأمر وربما أيضاً تسببوا به"، وأضاف أنه: "وبسبب أن واشنطن وثقت بحلفائها، وصلت إلى نتيجة عنيفة وهي أننا أصبحنا مسؤولين جزئياً عن المجزرة".
︎ الدور "الإسرائيلي" في ارتكاب مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا
يأخذنا هذا إلى التقرير الذي عرضته صحيفة "يديعوت أحرونوت الصهيونية"، والذي كشف النقاب عن وثائق حكومية تتعلق باجتياح لبنان عام 1982، وتتضمن معطيات حول "الدور الصهيوني" في ارتكاب مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا، إلى جانب ميليشيات الكتائب حينها بقيادة بشير الجميل، حيث يقول
التقرير إن المسؤولين العسكريين والأمنيين "الإسرائيليين" وقادة الكتائب عملوا معاً على تنسيق رواية تُبعد عنهم المسؤولية المباشرة عن المجزرة.
"التقرير يتناقض كلياً مع ما تم تسريبه على مر السنوات من اجتماعات رسمية (إسرائيلية) كانت تحاول إخفاء الدور الحقيقي للقوات (الإسرائيلية) ويتنصلون بموجبها من المسؤولية عن أحداث كثيرة".
يكشف الصحفي "الإسرائيلي" المتخصص في شؤون المخابرات رونين بيرغمان في التقرير عن وثائق قال إنه عثر عليها تؤكد طبيعة الدور "الإسرائيلي" في مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا، وتتناول هذه الوثائق وقائع الاجتماع السري الذي عقده القادة "الإسرائيليون" مع عدد من قادة الكتائب في بيروت بعد يومين من المجزرة بهدف تقليص الأضرار الناجمة عن هذه الجريمة ومحاولة تلفيق أسباب غير حقيقية لها تخفف عن "تل أبيب" حجم المسؤولية.
وقال بيرغمان: "هذه الوثائق تنقل وقائع الاجتماع السري الذي عقده (الإسرائيليون) مع عدد من قادة الكتائب في قلب بيروت في 19 سبتمبر/ أيلول، عقب يومين من المجزرة، وشارك فيه رفائيل إيتان الذي كان يشغل وقتها منصب رئيس أركان الجيش (الإسرائيلي)، وحضره كذلك قائد المنطقة الشمالية في الجيش (الإسرائيلي)، أمير دروري، ورئيس شعبة تيفيل في الموساد المسؤولة عن العلاقات الخارجية، مناحيم نيفوت".
أثبتت الوثائق أن شارون (الذي كان وقتها وزيراً للحرب)، حصل على مصادقة رئيس الحكومة بيغن على احتلال بيروت، وتقرر احتلال بيروت بعد أسبوع من إعلان إيتان أنه بقي في العاصمة اللبنانية عدد قليل من أفراد منظمة التحرير الفلسطينية، إلا أن شارون ادعى فجأة أن هناك الآلاف، وذلك قبيل مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا.
︎ شهادة طاقم التلفزيون الإسرائيلي
في استعراض لشهادة طاقم التلفزيون "الإسرائيلي" الذي كان أول من وثّق المجزرة التي وقعت في 16 سبتمبر/أيلول 1982 في بيروت واستمرت ثلاثة أيام، حينما دخل إلى مخيمي صبرا وشاتيلا قبل أربعين عاماً، وتحديداً بعد يوم من اقتحامها من قبل ميليشيات الكتائب اللبنانية، بـ"أمر إسرائيلي"، حسبما يقول الطاقم.
وثائقي قناة "مكان"، كشف أن "الصحافة الإسرائيلية" كانت توثّق قرب فوز الرئيس اللبناني الأسبق والزعيم الكتائبي بشير الجميل، برئاسة الجمهورية، ومن ثم اغتياله، وصولاً إلى مواكبة التلفزيون "الإسرائيلي" لتوثيق أولى الشهادات لمجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا.
وبموازاة ذكرى خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في 30 أغسطس/آب، أعقاب الاجتياح "الإسرائيلي" عام 1982، يبدأ الوثائقي بعرض مشهد تاريخي للمراسل السابق للتلفزيون "الإسرائيلي"، رون بن يشاي، وهو يقف قبالة مخيمي صبرا وشاتيلا، حيث يتكلم للكاميرا، محاولاً رفع المسؤولية المباشرة عن قوات الاحتلال، بقوله إن الأخيرة كانت على التلة المقابلة غرباً "في منطقة السفارة الكويتية والمدينة الرياضية في بئر حسن"، ولم تكن قريبة لدرجة تمكنها من مشاهدة ما تفعله ميليشيات الكتائب في المخيم، "علماً أن جيش الاحتلال (الإسرائيلي) كان يساند ميليشيات الكتائب بإلقاء القذائف المضيئة على المخيمين"!
يظهر بن يشاي، أثناء تصوير الوثائقي، ليؤكد أنه يشاهد تقريره التاريخي للمرة الأولى منذ ذلك الحين، وبدأ مع زميليه الآخرَين باستذكار ما شاهدوه، حينما دخلوا المخيمين في اليوم التالي لبدء المجزرة.
يروي بن يشاي اللحظات الأولى لدخول المكان الذي تعرض للمجزرة، "لمحاولة فهم ما جرى، كيف ولماذا قُتلت عائلات بأكملها؟، وبثّ الوثائقي المشاهد الأولى للجثث والدمار في مخيمي صبرا وشاتيلا". وتابع يشاي: "صمت مطبق في المكان، صوت ذباب ونحل، يقشعر بدني كلما تذكرت تلك المشاهد".
يؤكد بن يشاي في شهادته أن الطاقم الإخباري "الإسرائيلي، "كان أول من دخل إلى المخيمين"، واصفاً المشهد بالمروّع، حيث سمع صرخات النساء وشاهد أكواماً من الجثث المتناثرة في الطرق والأزقة والمنازل.
كما أدلى فني الصوت "الإسرائيلي"، بول كولسي، بشهادته عن المجزرة، ورؤيته لأم ممددة على مدخل بيت، وطفلة على بطنها، قائلاً: "لن أنسى ذلك في حياتي".
أما المصور "الإسرائيلي"، الذي كان ضمن الطاقم الثلاثي، فقد أكد أنه انشغل بتصوير الفظائع، بأسرع وقت ممكن، من دون أن يكترث بأي شيء آخر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.